لم يكن إعلان إدارة قناة بلقيس الفضائية عن توقف بثها التلفزيوني نهاية لمسيرة إعلامية دامت عقدا من الزمن فحسب ، بل كان بمثابة زلزال هز المشهد الإعلامي والسياسي اليمني ، كاشفا عن عمق الأزمة الهيكلية التي تواجه الإعلام الوطني العامل من خارج الحدود ؛ حيث بررت الإدارة قرارها بـظروف قاهرة خارجة عن الإرادة ، مما طرح تساؤلات وجودية حول تكلفة وفعالية ومستقبل إعلام المنفى في معركة اليمن المصيرية ، لقد تراوحت ردود الفعل على إيقاف القناة ، التي تتخذ من تركيا مقرا لها وتترأس مجلس إدارتها توكل كرمان ، بين نقيضين يعكسان الانقسام السياسي الحاد في البلاد ، فمن جهة ساد الحزن في جوا من أوساط الإعلاميين والجمهور المؤيد للشرعية ، الذين رأوا في بلقيس خسارة استراتيجية لصوت كان يمثل جبهة إعلامية قوية ومؤثرة ضد ميليشيات الحوثي ، ومسلطا للضوء على جرائمهم وانتهاكاتهم ، بينما أبدت بعض الأطراف ، المرتبطة غالبا بأجندات سياسية منافسة أو معارضة لإدارة القناة ارتياحا لهذا التوقف ونظرت إليه باعتباره تصفية حسابات سياسية ونهاية لمرحلة معينة ، ما أضاف بعدا سياسيا إلى التوقف الذي يفترض أنه اقتصادي وتشغيلي ، وهذه الازدواجية في ردود الفعل تؤكد أن قضية الإعلام اليمني ليست مجرد قضية بث بل هي جزء لا يتجزأ من الصراع على الشرعية وتمثيل الرأي العام .
منذ انطلاقها كرست قناة بلقيس قسما كبيرا من خريطتها البرامجية لمواجهة الرواية الحوثية وتغطية الصراع ، وبغض النظر عن أي تحفظات جزئية على خطها التحريري فقد مثلت القناة صوتا ضمن الإطار الإعلامي اليمني ، وساهمت في إثراء التعددية الإعلامية التي يجب أن تعكس التعددية السياسية كشرط لأي دولة ديمقراطية مستقبلية ، ولهذا فإن غياب هذا الصوت خاصة في ظل التضييق المستمر على حرية الصحافة في الداخل والخارج ، يهدد بتقليص هامش الأصوات المستقلة في الجبهة المناهضة للحوثيين ، مما يمنح الميليشيات فرصة أكبر للتحكم في سردية الأحداث .
إن توقف قناة بلقيس يعيد تسليط الضوء على المعضلة الكبرى لإعلام الشتات اليمني ، وهي التحديات التشغيلية الهائلة التي تتجاوز قدرة مؤسسات كثيرة على التحمل ، فالكلفة الباهظة للعمليات تتطلب نفقات مرتفعة للتشغيل ، تشمل أقساط الأقمار الصناعية وإيجارات المقرات وتأمين إقامات ورواتب الكوادر الإعلامية بالعملات الأجنبية ، وهي أعباء لا يمكن استدامتها دون دعم مالي ثابت وكبير ، إضافة إلى التبعية والضعف السياسي، حيث إن العمل من دول مضيفة يعرض القنوات لتأثيرات وضغوط إقليمية ودولية ، قد لا تتناسب مع الخط التحريري المستقل ، كما أن الاعتماد على دعم خارجي يجعل هذه المؤسسات هشة ومعرضة للإغلاق عند أي تحول في الأولويات السياسية للممولين أو الدول المضيفة ، لقد أثبت توقف قناة بلقيس أن العمل الإعلامي اليمني من الخارج هو نموذج مكلف وغير مستدام على المدى الطويل ، ويفتقر إلى الحصانة والاستقرار اللازمين لضمان استمرار الرسالة الوطنية
.
بات من الضروري أن تضع السلطة الشرعية وبالأخص وزارة الإعلام اليمنية نصب عينها اتخاذ قرار استراتيجي حاسم وهو إعادة توطين القنوات الوطنية داخل الأراضي اليمنية المحررة ، حيث يقدم نموذج قناة الجمهورية التي تبث من المخا ، بتوجيه من قيادة المقاومة الوطنية دليلا عمليا على إمكانية العمل من الداخل ، وكذلك قناة سبأ الفضائية التي تبث من مأرب ؛ إذ إن نقل العمل الإعلامي إلى أرض الوطن المحرر يمنح الإعلاميين التزاما أكبر واتصالا مباشرا بمعاناة وقضايا المواطنين ، ما يزيد من مصداقية الرسالة الإعلامية ، بالإضافة إلى تقليل التكلفة والأعباء التشغيلية الهائلة المرتبطة بالمنفى ، ولكي تنجح هذه العودة ، يجب على السلطة الشرعية تذليل العقبات الأمنية وتوفير بنية تحتية مستدامة ، والأهم من ذلك ضمان مساحة واسعة من الحرية الإعلامية تستوعب كافة الآراء المناهضة للانقلاب ، بعيدا عن أي محاولات للاحتكار أو المحاسبة على الخطوط التحريرية المختلفة .
إغلاق قناة بلقيس سينجم عنه تداعيات إنسانية ومهنية ، فمصير الكادر الإعلامي والصحفي في بلقيس ينبغي أن يحظى بالاهتمام ، فلا يترك هؤلاء الإعلاميين ، الذين يمثلون خبرات إعلامية ، دون استيعابهم في القنوات الوطنية أو المؤسسات الإعلاميةالحكومية ، فنحن في أمس الحاجة لأن تعمل الجبهة الإعلامية بكل طاقاتها ويجب أن يكون توقف قناة بلقيس نقطة تحول إجبارية ؛ لإعادة هيكلة المشهد الإعلامي ، فهو بمثابة إنذار يفرض على الحكومة الشرعية تحمل مسؤوليتها الكاملة ، بما يشمل دعم الإعلام الوطني بقوة وضمان الكفاءات المتضررة ، واتخاذ الخطوات الاستراتيجية اللازمة لنقل قلب الإعلام اليمني إلى الداخل ، حيث تشتد الحاجة إليه لتعزيز صمود الجبهة الوطنية .
عبدالواسع الفاتكي