آخر تحديث :الإثنين-24 نوفمبر 2025-03:48م

صفقات الاستعمار..

الإثنين - 24 نوفمبر 2025 - الساعة 01:17 م
هانم داود

بقلم: هانم داود
- ارشيف الكاتب


ثمنُ القشور

في قلب القاهرة التي كان الخديو إسماعيل يحاول جاهدًا أن يجعلها "قطعة من أوروبا"، كانت الأضواء الغازية تضيء شوارع لم تر النور إلا حديثًا، بينما في الظل، كانت الخزانة المصرية تنـزف، مثقلة بـمائة مليون جنيه من الديون.

كان "إسماعيل"، سليل "محمد علي" الذي نبذ فكرة شق القناة خوفًا من ويلات التدخل،غرق في حب قشور الحضارة الباريسية. كان ينفق ببذخ، يبني القصور، ويقيم الحفلات، بينما المرابون الأجانب يشدون الخناق.

ذات مساء، في قاعة استقبال فخمة، كان نوبار باشا، رئيس الوزراء ذو الميول البريطانية، يبتسم ابتسامة صفراء وهو يستمع إلى همسات القنصلين الإنجليزي والفرنسي.

.القنصل الإنجليزي بهدوء قاتل."يا نوبار بيه، الأمر بسيط، حقوقنا المالية يجب أن تُصان. صندوق الدين، هذا ما نحتاجه

لم يكن "صندوق الدين" مجرد هيئة مالية، بل كان أول هيئة رسمية أوروبية تُنشأ لفرض التدخل الأجنبي. لم يمر وقت طويل حتى باع إسماعيل حصة مصر في قناة السويس لـديزرائيلي (رئيس وزراء بريطانيا) مقابل حفنة من الجنيهات دفعها اليهودي الثري روتشيلد.


في الأزقة المظلمة، بعيدًا عن أبهة القصور، كان جمال الدين الأفغاني يبث أفكاره "الثورية". كان قد قدم إلى مصر بدعوة من رياض باشا (قيل إنه من أصل يهودي)، وبدأ يجمع حوله المريدين. كان يهاجم الحاكم والعلماء، ويدعو الفلاحين بكلمات تهييجية: "لماذا لا تشق قلب ظالمك؟!"

كانت هذه الدعوات لبناء الأحزاب والمطالبة بالحكم النيابي في ظل الضعف والفساد، هي تطور خطير في الوعي المصري؛ فتحولت من فكرة الطاعة والولاء (مع المطالبة بالعدل) إلى فكرة الثورة الشعبية وتأليب الرعية على الراعي، وهي بذرة فتنة أدت إلى إراقة الدماء.

من تلاميذه ظهر أحمد عرابي، الضابط المصري البسيط الذي سئم ظلم الضباط الشراكسة كـعثمان رفقي، وبدأ مطالبه العسكرية المشروعة. لكنه لم يكتفِ بإقالة الظالم، بل اغتر بنفسه، ودفعه سيل الأحداث إلى التظاهر علانية ضد الخديو توفيق الذي خلف إسماعيل.


الإنجليز والفرنسيون كانوا يراقبون الأحداث بغبطة وسرور!


كان الجاسوس الإنجليزي "بلنت" يتنقل بين الأعراب والضباط، يمدح عرابي ويشجعه باسم "الإصلاح"، ويهيئ له صورًا مضللة عن قوة الجيوش الإنجليزية، بينما القنصل الفرنسي يرسل لعرابي كتابًا يمدحه على ثباته ويحثه على عدم المبالاة بالحكومة.

الخديو توفيق، الذي أحس بالخطر المحدق، لجأ إلى الإسكندرية يطلب الحماية من السفن الإنجليزية المتربصة. لم يتأخر الإنجليز؛ افتعلوا مذبحة للنصارى في الإسكندرية ليتخذوها ذريعة للاحتلال بحجة حماية رعاياهم.

هنا جاءت اللحظة الفاصلة: سد قناة السويس لحرمان الإنجليز من الوصول لعمق البلاد.


في كفر الدوار، أجمع المجلس العسكري على وجوب سد القناة، باستثناء عرابي وحده! لقد خدعه المهندس الفرنسي دي ليسابس، صاحب امتياز القناة، الذي أقسم له كتابةً: "لا تحاول أية محاولة في سد قناتي، فإني هنا، فلا تخش شيئًا من هذه الناحية."

وبينما كان عرابي يعسكر في التل الكبير، انتقلت البوارج البريطانية تحت جنح الظلام عبر القناة، التي كان دي ليسابس قد ضمن حيادها.

بعدها، بدأت الخيانة تتسرب كالسم في صفوف الجيش: علي يوسف خنفس، الضابط الذي أخلى الطريق للإنجليز، كان قد باع وطنه بـرشوة إنجليزية قذرة، ومحمد سلطان باشا، الذي رافق جيش الاحتلال في زحفه على العاصمة، داعيًا الأمة إلى استقباله.

في التل الكبير، قُضي على الثورة العرابية، وضحك الإنجليز. قال اللورد جرانفيل، وزير خارجية إنجلترا، بعد الانتصار: "إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوروبي... ولو انهزم الجيش الإنجليزي لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابًا للتعصب الإسلامي!".

هانم داود