آخر تحديث :الإثنين-24 نوفمبر 2025-04:01م

لم تُبنَ دولة في الساحل بل يجرى الحفاظ على ما تبقى من الدولة

الأحد - 23 نوفمبر 2025 - الساعة 04:22 م
غمدان ابواصبع

بقلم: غمدان ابواصبع
- ارشيف الكاتب


في لحظة يتحدّث فيها البعض عن دولة تتشكل في الساحل

يبدو من الضروري قلب السؤال رأسًا على عقب: هل المشكلة في الساحل فعلًا، أم في الدولة التي لم يعد لها وجود فعلي كي يمر عبرها أي مشروع أو قرار؟ يصبح الأمر عبثيًا حين يُلام طرف لأنه يعمل بانتظام، بينما يُكافأ من يعيش في الفوضى ويقدّمها كمعيار للوطنية.


فمن يتحدثون اليوم عن دولة موازية يتجاهلون حقيقة ساطعة: الدولة اليمنية، ومؤسساتها ووزاراتها وموازناتها، غائبة تمامًا عن معظم المناطق المحررة. الوزارات عاجزة عن دفع الرواتب، المؤسسات بلا خطط، الإدارات مشلولة، والقوة العسكرية الرسمية ذاتها تعاني فوضى لا تُخفى على أحد. لذلك يصبح من الطبيعي، وربما الإجباري، أن تتشكل في بعض المناطق إدارات قادرة على العمل، حتى ولو لم ترق هذه الحقيقة لمن يرى الدولة من خلف المكاتب وليس من خطوط المواجهة.


الرواتب المنتظمة في الساحل ليست دليلًا على “كيان مستقل بل دليل على أن هناك من استطاع تنظيم صفوفه عندما تشتتت صفوف الآخرين. والمشاريع التي تُنجز بلا موازنات حكومية ليست تمردًا على الدولة، بل استجابة لواقع لم تعد فيه الدولة قادرة على تمهيد طريق واحد في منطقة محررة. والمفارقة أن أكثر من يصرخون “مشاريع خارج الوزارات” هم ذاتهم من يعلمون أن تلك الوزارات لا تمتلك أي قدرة تنفيذية، ولا تملك حتى مقومات التخطيط البسيط.


أما حادثة الوازعية التي يُراد تصويرها كدليل على خروج القوة عن سيطرة الدولة، فإنها في حقيقتها تكشف غياب الدولة وليس تجاوزها. فالمنطقة تعاني فوضى أمنية، والسلطات المحلية نفسها تقر بعدم قدرتها على فرض السيطرة. وفي ظل هذا الفراغ، يصبح التدخل الأمني ضرورة، لا نزقًا. من يتهم الساحل بأنه يتصرف “فوق الدولة” لا يجيب على السؤال الأكثر إيلامًا: أين كانت الدولة أصلًا؟ ومن الذي سمح للفوضى أن تتسع حتى أصبحت أي محاولة لوقفها تُصوَّر كأنها تعدٍّ على سلطة غائبة


ومن المثير للسخرية أن هناك من يحاول الإيحاء بأن الساحل يبني “جمهورية خاصة”، بينما الواقع يثبت العكس فالقوة هناك ترفع علم الجمهورية، تدعم الشرعية، وتخوض الحرب ضد الحوثي في حين انشغل آخرون بصراعات جانبية، أو بإدارة مكاتب إعلامية تهاجم من يقاتلون نيابة عن الدولة التي يدّعون الدفاع عنها نظريًا. لو كان هناك مشروع دولة مستقلة في الساحل لكان إعلانها أسهل من مواصلة العمل تحت مظلة الشرعية، ولكن ما يحدث ليس مشروع انفصال، بل مشروع فعالية يزعج كل من فشل في تقديم نموذج مشابه.


اليمن لا يسقط بسبب قوة منضبطة، ولا يتشظى بسبب منطقة تعمل بفعالية. اليمن يتفكك لأن هناك من يريد أن يبقى الجميع في مستوى واحد من العجز حتى لا يظهر نموذج يمكن أن يفضح تقصير الآخرين. لذلك تأتي الاتهامات اليوم لا لأنها مبنية على وقائع، بل لأنها رد فعل سياسي على نجاح غير مرغوب فيه.


من الظلم اختزال ما يحدث في الساحل بأنه “دولة موازية”، بينما الحقيقة الواضحة أن ما يجري هناك هو إحياء لجزء من الدولة التي ماتت في أماكن أخرى. الفرق ليس في النوايا، بل في القدرة: هناك من تستطيع قواته أن تنتظم، ومنشآته أن تُبنى، ومشاريعه أن تُنجز، وهناك من لا يزال يبحث عن الكهرباء لتشغيل مكتب حكومي.


في الواقع لم تُبنَ دولة في الساحل، بل صيغت إدارة ناجحة في منطقة محررة عندما غابت مؤسسات الدولة نفسها. والقوة التي تُتهم اليوم بأنها “فوق الدولة هي في الحقيقة القوة التي أبقت للدولة وجودًا عمليًا على الأرض، بينما اكتفى الآخرون بإعلان الولاء لها على الورق.