آخر تحديث :الإثنين-17 نوفمبر 2025-02:13ص

فقيد الصحافة هشام باشراحيل… أستاذ الصحافة وحرية الكلمة

الجمعة - 14 نوفمبر 2025 - الساعة 09:03 م
نجيب الكمالي

بقلم: نجيب الكمالي
- ارشيف الكاتب



تمرّ بين الناس شخصيات تترك أثرًا خفيًا، وبعضها يترك بصمة لا تُمحى. هشام باشراحيل كان من النوع الثاني، فقد ترك إرثًا خالدًا في الذاكرة اليمنية، ليس فقط كصحفي، بل كرمز للنضال والكلمة الحرة. وُلد في عدن لعائلة لها جذور صحفية عميقة، ونشأ محاطًا بالصحف والمقالات، يتنفس الحبر ويشم رائحة الورق، فتشكل وعيه المبكر وغرس فيه شعورًا عميقًا بأن الكلمة ليست للتسلية، بل أداة للحقيقة والنضال.


لم يكن هشام مجرد مراسل عادي في بداياته، بل خاض تجارب دولية وتعلّم فنون الصحافة أثناء تغطيته لصراعات في مناطق الحرب، ليعود إلى عدن محمّلًا بمعرفة نادرة عن الإعلام ووعيًا بثقل المسؤولية التي يتحملها الصحفي في زمن الفوضى. واجه الضغوط الأمنية وحُبس مع أبنائه بعد احتجاجه على منع صحيفة الأيام من الطبع والتوزيع، وكان ذلك اختبارًا للقيم والكرامة، دفع فيه ثمن التزامه بالكلمة الحرة. رغم تعرض بيته ومقر الصحيفة للهجوم، ظل ثابتًا، رافضًا أي انصياع للسلطة، مؤكدًا أن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة.


صحيفة الأيام أُسست عام 1958 كصحيفة يومية مستقلة باللغة العربية، لتخلف صحيفة الرقيب التي كانت تصدر باللغتين العربية والإنجليزية، وصدر العدد الأول في 30 يوليو 1958 على يد مؤسسها العميد محمد علي باشراحيل في عدن إبان الاحتلال البريطاني، مع نسخة إنجليزية شقيقة. وعند تأسيسه لاحقًا، لم يكن هدف هشام باشراحيل مجرد إنشاء مؤسسة إعلامية، بل أسس مدرسة للحوار والفكر النقدي. كل مقال، كل تحقيق، كان درسًا في الحرية والمسائلة، وفي مواجهة الظلم بالكلمة والحقائق. كان يرى أن قيمة الصحفي لا تُقاس بعدد المقالات، بل بقدر تأثيره في وعي الناس، وبقدرته على جعل القراء يتساءلون ويبحثون عن الحقيقة بأنفسهم.


ليس كل من يكتب قائدًا فكريًا، لكن هشام امتلك قدرة نادرة على التأثير، بعقلية نقدية وروح إنسانية، بتواضع واحترام للآخر، وحساسية تجاه معاناة الناس. هذه الشخصية جعلته رمزًا للصحافة الحرة في عدن والجنوب، وأستاذًا للأجيال التي تلته.


توفي هشام باشراحيل بعد صراع مع المرض، لكنه لم يترك الكلمة وراءه، بل ترك إرثًا مستمرًا. صحيفة الأيام تظل منبرًا للحقيقة، وذكراه حية في كل مقال يتحدث عن حرية الإعلام ومواجهة الظلم بالكلمة لا بالسلاح. مثل أفلاطون الذي مر بسوق الرقيق ليصبح أستاذ الفلاسفة، هشام واجه الضغوط والملاحقات ليصبح أستاذ الصحافة، من علّم الأجيال كيف تكون الكلمة قوة، وكيف يكون الصحفي مرآة للحق ودرعًا للحرية.


هشام باشراحيل لم يكن مجرد صحفي، بل رمز لإنسانية الكلمة، وتجسيد لمفهوم الصحافة كمسؤولية وواجب وفضيلة. من مطبعة الأيام إلى قلوب الناس، من السطور إلى أرشيف الوعي، سيظل اسمه علامة مضيئة في تاريخ الإعلام اليمني، مثل الفيلسوف الذي علّم البشرية كيف تفكر، علمنا هو كيف نكتب ونفكر ونحمي الحقيقة.