لم تعد الحرب في اليمن مجرّد صراعٍ مسلّح على الأرض بين أطراف تتنازع السلطة، بل تحوّلت إلى حربٍ أخرى لا تقلّ شراسة حرب الروايات. في بلدٍ أنهكته القذائف، ودمّرته المجاعة والأوبئة، تدور معركة موازية على شاشات التلفزيون ومنصّات التواصل الاجتماعي، حيث تُصاغ الحقيقة وتُعاد كتابتها في كل ساعة، وتُقتل ببطء تحت وابل من الدعاية والتحريض والتشويه. اليمن اليوم ليس فقط ساحة حربٍ جغرافية، بل أيضاً مختبر مفتوح لمعركة السيطرة على الوعي، حيث كل طرف يسعى لامتلاك “نسخته الخاصة من الحقيقة”، فيما يقف المواطن العادي، المتعب والجائع، حائراً أمام سيلٍ من الروايات التي تتناقض كما تتناقض خطوط النار على الأرض. كل طرف في الصراع اليمني يملك منبراً إعلامياً، أو شبكة من القنوات والحسابات التي تروّج لروايته الخاصة. تلك الوسائل تقدم سرديات أحادية، تُعيد صياغة الوقائع بما يخدم الموقف السياسي أو العسكري للطرف الذي تمثله. الانتصار الصغير يتحول إلى “نصر استراتيجي”، والهزيمة تُغلف بعبارات مثل “انسحاب تكتيكي”. أما المعاناة الإنسانية للمدنيين، فهي غالباً ما تُدفع إلى الهامش، لتفسح المجال أمام خطابات النصر والمظلومية والتعبئة. في هذا المشهد، أصبحت الحقيقة أول ضحايا الحرب، لكن في اليمن تم إعدامها علناً وبمنهجية دقيقة. فكل طرف يملك ماكينات إعلامية مدعومة بموارد مالية وسياسية، تعمل على إعادة إنتاج الواقع بما يخدم أجندته. وهكذا، أصبح المشاهد اليمني والعربي أسير زخم من الأخبار المتناقضة والاتهامات المتبادلة، في بيئة إعلامية تفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية. في خضم هذا الصراع، تراجع مفهوم “الإعلام المحايد” ليحل محله تصنيف ثنائي صارم “إعلام موالٍ” و”إعلام معارض”. وبين الطرفين، يقف الصحفي المستقل كمن يسير على حبل مشدود فوق هاوية. الصحفي الذي يحاول نقل الحقيقة دون تزييف يجد نفسه تحت نيران الجميع متهماً بالانحياز من هذا الطرف، وبالعمالة لذلك الطرف. المعضلة التي يواجهها الإعلامي اليمني ليست أيديولوجية فقط، بل وجودية أيضاً. فخطر القتل أو الاعتقال التعسفي يلاحق الصحفيين شمالاً وجنوباً، حيث يفرض عليهم رقابة صارمة على حرية التعبير، لا تتسامح مع النقد أو المساءلة. أصبح الصحفي هدفاً مشروعاً، ليس فقط بالرصاص، بل أيضاً بالتجويع والإقصاء. منذ اندلاع الحرب عام 2015، لم تسلم الحقيقة من القصف. فكل طرف في الصراع بنى منظومته الإعلامية الخاصة، مزوّدة بترسانة من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والحسابات المموّلة على مواقع التواصل. كلٌّ منها يروي الحرب من زاويته، ويقدّم روايته بوصفها الحقيقة المطلقة. فالمعارك العسكرية تُترجم إلى انتصارات ساحقة في نشرات الأخبار، والهزائم تُقدَّم باعتبارها “انسحابات تكتيكية”. أما الضحايا المدنيون، فهم غالباً خارج الكادر، لأنهم لا يخدمون سردية المنتصر. تحوّلت الحرب الإعلامية إلى سلاحٍ أشدّ فتكاً من المدافع، لأنها لا تدمّر الجسد فقط، بل تقتل الإدراك وتعيد تشكيل الوعي. الكلمات أصبحت ذخيرة، والصور قنابل، والمشاهد المتلفزة سلاحاً استراتيجياً يوازي القوة العسكرية. في بلدٍ يُصنَّف من أخطر البيئات للعمل الصحفي في العالم، يدفع الصحفي اليمني ثمن الحقيقة مضاعفاً. فهو يواجه ثلاث جبهات في وقتٍ واحد جبهة الخطر الأمني، وجبهة الفقر، وجبهة الاتهام. كلّ طرفٍ يضع الإعلامي تحت المجهر، يراقب كلماته، يبحث عن نواياه، ويتهمه بالانحياز بمجرد أن يكتب ما لا ينسجم مع الرواية الرسمية. تُغلق المؤسسات الإعلامية المستقلة، تُصادر الصحف، ويُعتقل الصحفيون أو يُخفون قسراً. في صنعاء، يواجه الصحفيون رقابة الحوثيين الصارمة، حيث يُعتبر “الحياد” نوعاً من الخيانة. وفي عدن، لا يختلف الوضع كثيراً، إذ تتعدد القوى وتتنازع السيطرة، ولكل منها خطوطها الحمراء التي لا يجوز تجاوزها. حتى أولئك الذين اختاروا المنفى هرباً من التهديد، وجدوا أنفسهم في مواجهة تحديات جديدة البحث عن تمويل، الحفاظ على الاستقلالية، ومقاومة الضغوط السياسية والتهديدات بالقتل والتصفية التي تمتد عبر الحدود. انهيار الاقتصاد اليمني جعل من الصحافة مهنة محفوفة بالمعاناة. توقفت الرواتب، وأُغلقت الصحف، واضطر كثير من الإعلاميين إلى القبول بالتمويل السياسي من أطراف النزاع. التمويل الذي يُقدَّم على أنه دعم مهني، يتحوّل سريعاً إلى أداة ابتزاز. وهكذا، يصبح الصحفي، عن قصدٍ أو اضطرار، جزءاً من ماكينة الدعاية. وبين مطرقة الحاجة وسندان الأخلاق، تذوب فكرة “الاستقلالية” في الواقع القاسي. لم تعد الأسئلة الكبرى عن الحقيقة والمهنية مطروحة بقدر ما أصبح السؤال البسيط هو: كيف أعيش ؟ النتيجة أن الساحة الإعلامية امتلأت بأصواتٍ كثيرة، لكنّها كلها تتحدث بلسان السلطة، أيّاً كان شكلها. بينما سكتت الأصوات القليلة التي حاولت قول الحقيقة، إما خوفاً أو يأساً أو لأن لا أحد يسمع في ضجيج الحرب. مع غياب الإعلام المهني والمستقل، ووسط انقطاع الاتصالات في بعض المناطق، وانعدام الشفافية الرسمية، تهيمن الشائعات على المشهد. في اليمن اليوم، يمكن لأي خبر مجهول المصدر أن يشعل أزمة أو يغيّر المزاج العام خلال ساعات.
تنتشر المعلومات المضللة بسرعة البرق عبر تطبيقات التواصل، تغذّيها الجيوش الإلكترونية "الذباب الإلكتروني" التي تديرها أطراف الصراع لتمرير أجنداتها. لم يعد هناك معيار للصدق، فالمعلومة تُقاس بمدى انتشارها لا بمدى صحتها. أصبحت الكذبة خبراً عاجلاً، وأصبحت الحقيقة تحتاج إلى جهدٍ مضاعف لتجد طريقها إلى النور هذا إن وُجد من يبحث عنها أساساً. في بدايات الحرب، حظيت اليمن بتغطية واسعة في الإعلام العالمي، لكن مع مرور السنوات وتعدد بؤر الصراع في العالم، تراجع الاهتمام تدريجياً. أصبحت المأساة اليمنية “خبر الأمس” في نظر كثير من غرف الأخبار الدولية.
وحين يُذكر اليمن اليوم، يُختزل غالباً في صور الجوع والأطفال المرضى، دون الغوص في جذور الأزمة أو مسؤوليات الأطراف. بذلك، ساهم الصمت الدولي في ترك الساحة مفتوحة أمام الروايات المحلية المتصارعة لتملأ الفراغ كما تشاء. الحقيقة في اليمن ليست ضحية جانبية للحرب، بل هدف رئيسي لها. فكلّ سلطة لا تستطيع أن تحكم بالسلاح فقط، بل تحتاج إلى “قصة” تُقنع بها جمهورها، وتبرر بها استمرار الحرب أو سيطرتها. لذلك، صار امتلاك الرواية أهم من امتلاك الأرض، لأن الأرض تُستعاد بالقوة، أما الوعي فيصعب استعادته حين يُختطف. في نهاية المطاف، لا أحد يربح في حرب الروايات. فحين تُزوّر الحقيقة، يخسر الجميع. المجتمع يُصاب بالانقسام، والذاكرة الوطنية تتشوه، ويضيع الأمل في مستقبلٍ مبني على العدالة والمساءلة. اليمن لا يحتاج فقط إلى وقف إطلاق النار، بل إلى وقف الكذب. فالمصالحة الحقيقية لا تبدأ على طاولة المفاوضات، بل في استعادة الثقة بين الناس، وهذه الثقة لا تُبنى إلا على معرفة الحقيقة. إنقاذ الحقيقة في اليمن هو الخطوة الأولى نحو إنقاذ البلاد نفسها. وهذا واجبٌ مشترك بين الصحفيين الشجعان الذين ما زالوا يكتبون رغم الخطر، وبين المتلقين الذين عليهم أن يتعلموا التمييز بين الخبر والدعاية، بين الصوت الحر والصوت المأجور. في النهاية، لا سلام حقيقياً يُبنى على الأكاذيب، ولا وطن يقوم على روايات مشوهة. اليمن لن يُشفى من جراحه ما لم تُروَ قصته كما هي بلا تجميلٍ ولا إنكار، بل بصدقٍ مؤلم هو وحده القادر على فتح باب الشفاء.