في خطوة أثارت جدلا واسعا وعاصفة من التساؤلات في الأوساط السياسية والفكرية العربية ، استضاف المؤتمر القومي العربي في دورته الرابعة والثلاثين المنعقدة في بيروت ، كلمة مسجلة لزعيم المليشيات الحوثية ، عبد الملك الحوثي ، هذا الظهور لعبدالملك الحوثي أمام حشد من الشخصيات ، التي تقدم نفسها كقائدة للفكر القومي والتقدمي واليساري في العالم العربي ، خلق مفارقة مدوية كشفت عن حجم التناقضات التي تعصف بالخطاب القومي العربي المعاصر مفارقة الخطاب والممارسة ، فلطالما قدمت النخب القومية واليسارية نفسها على أنها رأس الحربة في النضال من أجل الدولة المدنية ، ودولة النظام والقانون ، وكمناهض شرس للاستبداد والحركات الشمولية ، خاصة تلك التي تستند إلى أيديولوجيا دينية وتستخدم السلاح لفرض رؤيتها ، إلا أن إفساح المجال لزعيم ميليشيا مسلحة ، انقلبت على الدولة ومؤسساتها الشرعية في اليمن ، وأدخلت البلاد في أتون حرب أهلية مدمرة وصراع إقليمي ودولي ، يطرح أسئلة جوهرية حول مصداقية هذه الشعارات ؛ فكيف يمكن التوفيق بين ادعاء النضال من أجل القومية العربية ، وبين الاحتفاء بجماعة تعمل كأداة تنفيذية في يد المشروع الإيراني ، ذي الطابع الفارسي التوسعي ، الذي يتعارض في جوهره وأهدافه مع مصالح الأمن القومي العربي؟! لقد انسلخت مليشيا الحوثي عن هويتها العربية لتصبح جزءا من محور إقليمي تقوده طهران ، مما يجعل استضافتها في محفل قومي عربي أمرا يصعب فهمه أو تبريره .
المبرر الذي ساقه منظمو المؤتمر والمدافعون عن هذه الخطوة يتمحور حول مزاعم مليشيات الحوثيين وقوفها مع القضية الفلسطينية، ففي كلمته استعرض عبدالملك الحوثي ما وصفه بالدور اليمني في جبهات الإسناد ودعم غزة ، متحدثا عن العمليات العسكرية التي استهدفت سفنا وأجبرت حاملات طائرات أمريكية على المغادرة ، هذا الخطاب الذي يركز على مقاومة إسرائيل والولايات المتحدة ، يجد صدى عاطفيا قويا في الشارع العربي ولدى بعض النخب ، التي تتجاهل الأبعاد الكارثية لأفعال الحوثيين على الصعيد اليمني الداخلي ، وتغض الطرف عن الانقلاب الحوثي على الشرعية ، وتدمير مؤسسات الدولة ، وتأجيج الصراع الطائفي ، والأزمة الإنسانية التي يعاني منها ملايين اليمنيين .
إن الاحتفاء بالمليشيات الحوثية بذريعة مقاومة إسرائيل وأمريكا يمثل تدليسا خطيرا وتضحية بالشعب اليمني وقضيته الوطنية على مذبح شعارات فضفاضة ، كما أنه يكشف عن نظرة عاطفية وآنية للأحداث ، تفتقر إلى العمق التحليلي والسياسي ، الذي يُفترض أن تمتلكه مثل هذه النخب ، يمر الفكر القومي العربي بأزمة أفقدته بوصلته وقدرته على التمييز بين الحركات الوطنية والميليشيات الوظيفية ، حيث إن الانبهار بخطاب المقاومة المسلحة ، بغض النظر عن هوية حاملها وأجندته الحقيقية ، يدل على حالة من الإفلاس الفكري والسياسي ، فلقد تحولت الشعارات التي رفعتها التيارات القومية العربية لعقود ؛ من مدنية وديمقراطية ووحدة عربية إلى مجرد غطاء لاستهلاك إعلامي ، يتم التضحية به بسهولة عند أول تقاطع مع فصائل مسلحة ، تخدم أجندات غير عربية فالتناقض بين الدعوة للدولة المدنية واستضافة زعيم ميليشيا دينيةو، وبين ادعاء القومية العربية والتحالف مع وكلاء مشروع إقليمي منافس ، هو انفصام يكشف عن أن هذه الشعارات لم تعد سوى أداة للتسويق السياسي ، وليست مشروعا حقيقيا للتغيير .
ظهور عبد الملك الحوثي على منصة المؤتمر القومي العربي كاشف لحجم التحديات التي تواجه الفكر القومي ، ومدى ابتعاده عن هموم المواطن العربي الحقيقية ، وعلى رأسها الأمن والاستقرار والدولة الوطنية الجامعة ، ويسيء في نهاية المطاف إلى الشعب اليمني الذي يدفع ثمن إرهاب وعنف مليشيات الحوثيين ، ويسيء أيضاً إلى تاريخ طويل من الأفكار والشعارات القومية العربية التي صدّعت بها هذه النخب رؤوسنا ، لتثبت في النهاية أنها أول من يتخلى عنها .
عبدالواسع الفاتكي