عـن عـدن... التي ما زالت تحلم رغم كل شيء.
عـدن، تلك المدينة التي وُلدت من البحر، وتعيش على موعـد الغد.
فـي شوارعها تتقاطع الحكايات، وفي وجوه أهلها ترى كل فصول التعب والأمل معًا، كانت يومًا تغفو على عبير الموج، وتصحو على نبض الحياة، قبل أن تتكاثر الوعود حولها كما تتكاثر الأمواج على شاطئها المنهك.
أصبـح أهلها يحلمون بأبسط الأشياء: ماءٌ لا ينقطع، وكهرباء لا تخون، وشارعٌ لا يغصّ بالحفر والخذلان.
لكـن الوعود جاءت تباعًا، كسحابة صيف لا تُمطِر، وكأنّ المدينة قد كُتِب عليها أن تنام على أمل وتستيقظ على انتظار.
فـي كل زاوية منها حكاية، وفي كل وجه أثرُ وعدٍ لم يُوفَ به، وعودٌ بالإعمار، وبالرواتب، وبالاستقرار، وبالعودة إلى الحياة.
غـير أن الزمن مضى، ولم يأتِ من تلك الوعود سوى الصدى، وصار الناس يحفظونها كما يُحفَظ الشعر القديم: يُرددونه دون يقينٍ بأنه سيُقال من جديد.
تعـبت المدينة من كثرة الخطب، من كثرة اللجان والبيانات والمشاريع التي تُعلَن ولا تُنفَّذ.
تعِـب أهلها من الانتظار في طوابير الوعود، بينما يتبدّل الوجع ولا يتبدّل الواقع.
المـدينة التي عُرفت يومًا بابتسامتها، صارت تُعرف بصبرها، وبقدرتها العجيبة على تحمّل ما لا يُحتمل.
ومـع ذلك؛
لا تـموت المدن التي أحبّها الناس، فكل وجعٍ في شوارعها هو دعوةٌ خفية للنهضة، وكل دمعةٍ فيها بذرة ضوء؛ فـالمكان الذي يسكنه الأمل لا يمكن أن يشيخ مهما طال ليله.
إنـها المدينة التي تعبت من النوم على الوعود، لكنها لم تكفّ عن الحلم.
ربـما تكون هذه هي الحكاية الحقيقية؛ ليست حكاية مدينة تنتظر من يصلحها، بل حكاية مدينة تصلح فينا مفهومنا للانتظار نفسه.
الانتـظار هنا ليس سلبيًا، بل هو تراكم صبور للغضب الهادئ، وتجميع بطيء للقوة من أعماق اليأس.
عـدن، بتعبها وأملها، تعلّمنا أن أقسى أنواع الحب وأصدقها، هو أن تحب مكانًا ليس لأنه جميل، بل لأنك تريده أن يكون جميلاً، رغم كل شيء.
د. هـاني بن محمد القاسمي
عـدن: 5. نوفمبر. 2025م
.