قد تمر لحظة زمنية عابرة يتمثل خلالها مشهد مرئي، ويرتسم خلالها موقف عملي، فتُختصر بذلك الروايات والحكايات، وتُطوى المسافات، وتتضح المفاهيم، وتُبان الصور، وتتجلى المقاصد، ويحضر اليقين، وربما نطق لسان الحال بالقول: "إن الأقلام قد رُفعت وجُففت صحائفها".
ولبيان ما سبقت الإشارة إليه وتبيين ما أردنا الوصول إليه، نذكر هنا لحظة من تلك اللحظات العابرة، وموقفاً عملياً يغني عن مسهب القول ومطنب الكلم، كما هو الحال فيما هو آت:
ففي مطلع سبعينيات القرن الماضي، وفي تلك الحقبة الزمنية التي يمكن وصفها بـ"ربيع المد القومي العربي"، والتي كان عنوانها عبد الناصر - مصر - كزعامة عربية، بالإضافة إلى حضوره الإقليمي والعالمي حينها، وذلك من خلال دوره الفاعل في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز مع شريكيه (غاندي) و(هيتو).
في تلك الأجواء، وتحديداً في العام 1970م، توجه الرئيس عبد الناصر إلى المملكة المغربية لحضور القمة الأفريقية بالرباط، وكان في استقباله الملك محمد الخامس، والذي بدوره أعد بالإضافة إلى الاستقبال الرسمي استقبالاً شعبياً للرئيس ناصر، واقتضى ذلك الاستقبال الشعبي مرور الزعيمين وسط الجماهير على ظهر سيارة مكشوفة بهدف التحية المتبادلة.
وبينما الموكب يجوب شوارع الرباط بالسيارة المكشوفة، ومن وسط تلك الحشود الهائلة، ظهر رجل مغربي بسيط تلوح على وجهه ملامح الطيبة، فظل يصارع الجموع ويخترق الزحام حتى استطاع الوصول إلى مقربة من السيارة التي تقل الزعيمين، وصرخ بأعلى صوته :
يا سيادة الرئيس، يا سيادة الرئيس..!
وصل صراخه إلى أذن عبد الناصر الذي طلب على الفور إيقاف السيارة، وأشار إلى الرجل، فاقترب منه مصافحاً إياه - دون الملك - وسط ابتسامة ودهشة الملك محمد الخامس. وشبّ الرجل منتصباً على أصابع قدميه حتى وصل إلى أذن عبد الناصر، الذي انحنى مصغياً إليه، فسأله الرجل :
سيادة الرئيس، متى ستعود إلى القاهرة؟
فدهش عبد الناصر وأجابه:
ربما بعد الغد إن شاء الله.
فقال الرجل :
يا سيادة الرئيس، بعد أن تعود إلى القاهرة، سلّم لي على إسماعيل ياسين !!
"هزّ الرئيس رأسه موافقاً، وانفجر هو والملك بالضحك، والذي بدوره كان قد اقترح على عبد الناصر عدم التحرك بسيارة مكشوفة، لكن المقترح قوبل بالرفض من قبل الرئيس ناصر، لتكون تلك اللحظة على موعد مع الأقدار، وخلالها يتم تسجيل موقف ليس للتاريخ وحده فحسب، بل للفن على حساب السياسة والزعامة والقيادة.
لقد شعر الزعيمان (الرسميان) حينها بأن زعيماً (شعبياً) ثالثاً، رغم غيابه عن المشهد وفقدانه للصفة الرسمية، إلا أنه هو صاحب الحضور الفعلي وموضع الاهتمام والنظر لدى تلك الجماهير الغفيرة، التي اعتبرت مرور الزعيمين بتلك الطريقة لتحيتها فرصة ذهبية لتكليف الزعيم ناصر بنقل تحياتها إلى (الزعيم) إسماعيل ياسين.
ومن المثير والملفت أن الركن الغائب هذا هو بطل الموقف وموضع المشهد ومحل الاستشهاد به، كونه بالفن الذي حمله ومارسه أصبح عابراً للمكان والزمان، ومتجاوزاً مساحات أصحاب السمو والفخامات، وكاسراً في هذا الموقف قواعد البروتوكولات ومراسيم الاستقبالات.
تلك اللحظة تجلت فيها أهمية الفن في أروع وأكمل صوره، من حيث تأثيره البالغ في الشعوب وفاعليته العابرة للحدود، وذلك في حال الهواية والهواة ما قبل ثورة الاتصالات !
فكيف في حال تم توظيفه خدمةً لمشاريع الأوطان ؟!
وإذا كان ذلك التأثير للشخصية الفنية إسماعيل ياسين في عصر ما قبل ثورة الاتصال والتواصل، وفي حال الهواية، حيث لم تكن هناك فضائيات ولا إنترنت ولا هواتف نقالة ولا سوشال ميديا ولا مواقع تواصل ولا احتراف... فكيف سيكون تأثيره في مثل عصرنا هذا ؟ عصر ثورة الاتصال وسيولة التواصل والفنون ؟
ولأهمية ذلك، فليس بالضرورة ضرب المثل بـ(البعيد منا)، بل بـ(القريب منا البعيد عنا) من المجاورين لنا نحن العرب.
فإننا نرى أن منهم من سبق العرب وقطع مسافات طويلة في مجال الفنون المهدفة والهادفة، كالدراما والمسرح والغناء والشعر والأدب والموسيقى والكوميديا والتمثيل والرسم، وبرامج إحياء التراث وتوظيف الفلكلورات الشعبية. ولم يكتفوا بذلك، بل دمجوا تلك الفنون بمناهج التعليم، وطعّموا بها المنابر الإعلامية خدمةً لمغازيهم القومية، ولخططهم التوسعية، ولرؤاهم الابتلاعية تجاه العرب، بينما بقي العرب متخلفين وبمسافات طويلة في هذا المضمار الهام .
فإلى متى سيظل العرب يتجاهلون المتاح لديهم من مصادر القوة وأدوات الوثوب ؟!
بقي السؤال :
أكووو عرب ؟!