في زمن الحرب، لم تعد القذائف وحدها تقتل بل أصبح التعليم نفسه ضحية، والمعرفة تحاصر كما يحاصر الوطن.
حدثني رجل ثقة عن جاره الذي كان له ابن متفوق في دراسته، التحق بكلية الهندسة بجامعة عدن، يحلم بمستقبل أفضل لأسرته الفقيرة التي أنهكها الفقر والحرب.
كان الشاب يذهب مع صديقه للمذاكرة رغم الجوع وضيق الحال، حتى عرض عليه صديقه ذات يوم فكرة الالتحاق بقوات العمالقة للحصول على راتب ألف ريال سعودي شهريًا، علّهما يساعدان أسرتيهما ويخرجان من دائرة الحاجة.
استحسن الشاب الفكرة، لكنه خشي رفض أسرته، فقرر التسجيل سرًّا في تلك القوات.
اختفى لأيام، بحث عنه والده في كل مكان، وذرفت أمه الدموع خوفًا عليه حتى جاءتها رسالة منه يقول فيها:
أنا في المخاء، التحقت بقوات العمالقة، وأموري طيبة، تطمني أمي.
حاولت الأم إقناعه بالعودة إلى البيت، وهددته بأنها ستصوم عن الطعام إن لم يرجع، فسافر الأب إلى المخاء وأقنعه بالعودة قائلاً:
أمك مريضة ولا شفاء لها إلا بعودتك ولدي...
عاد الشاب إلى منزله، فاستقبلته والدته بالدموع وقالت له:
والله لن تعود إلى المخاء إلا بعد أن تكمل دراستك وتصبح مهندسا، وإلا وجهي من وجهك حرام!
رضخ الشاب لرغبتها وأكمل دراسته حتى تخرج مهندسًا بعد ثلاث سنوات، وعلق شهادته على جدار البيت، لكنه لم يجد عملاً. اضطر للعمل سائق "دباب" في شركة ليؤمّن مصروفه اليومي.
وذات يوم، صادف صديقه القديم الذي أصبح قائدًا عسكريًا في قوات العمالقة، يملك سيارة "شاص" جديدة وحراسة، وبنى منزلاً وتزوج، دعاه على الغداء وتبادلا الحديث، فسأله صديقه:
هل تخرجت من كلية الهندسة؟
فقال الشاب بحرقة:
"نعم، وليتني لم أتخرج وبقيت معك في المخاء!"
عاد إلى منزله محطمًا، وقال لوالدته:
سأرفع عليك قضية، لأنك أجبرتني على إكمال دراستي، لو بقيت في المخاء، لامتلكت بيتا وتزوجت وأشتريت سيارة، ولكنت اليوم مثل صديقي!!!
بكت الأم وقالت بحرقة:
سامحني يا ولدي... نحن نعيش في زمن حرب على التعليم والتعلم!!!
هذه القصة حقيقية، ومؤلمة، تعكس واقعًا موجعًا نعيشه في وطن صارت فيه الشهادة عبئًا، والمعرفة تهمة، والجهل طريقًا للنجاة والرفاهية.
إنها حرب صامتة… لكنها أشد فتكًا من كل الحروب.
*د. غسان ناصر عبادي*