عدنان زين خواجه
في بلد يعيش حرباً طاحنة منذ أكثر من عشر سنوات، يصبح الحديث عن الإصلاح المالي والإداري ضرورة وطنية لا ترفاً سياسياً. اليمن اليوم يواجه واقعاً اقتصادياً مريراً، وعجزاً متراكماً في الموازنة العامة للدولة، في حين تتزايد النفقات غير الضرورية في مؤسسات مترهلة تستنزف ما تبقى من موارد الدولة، دون أي مردود تنموي أو وطني يُذكر.
تعيينات تفوق حدود المنطق
منذ عام 2015، شهدت البلاد انفجاراً غير مسبوق في عدد التعيينات، خاصة في السلك الدبلوماسي، وكأن البلاد تعيش حالة ازدهار لا حرب. فقد تم فتح سفارات وقنصليات في دول لا تربطها باليمن أي مصالح مباشرة ولا حتى تمثيل دبلوماسي متبادل، في الوقت الذي لا يتواجد فيها أي رعايا يمنيين. المفارقة الأكبر أن هذه التعيينات لم تقتصر على السفراء والوكلاء والقناصل، بل شملت مستشارين وسكرتاريين وإعلاميين وهيئات استشارية متعددة تابعة لمكاتب رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وغيرها.
ولم تتوقف الكارثة عند هذا الحد، بل إنّ هؤلاء جميعاً يتقاضون رواتب بالعملة الصعبة، إضافة إلى مخصصات إعاشة وسكن وسفر، في وقت يعيش فيه المواطن اليمني حالة فقر وجوع غير مسبوقة، يطارد لقمة العيش بين انقطاع الرواتب وانهيار العملة وتضخم الأسعار.
العبء المالي والتناقض الأخلاقي
النتيجة الطبيعية لهذه الفوضى في التعيينات هي تضخم بند النفقات الجارية في الموازنة العامة، مقابل انكماش شديد في الإنفاق الاستثماري والخدماتي. المدارس بلا معلمين، والمستشفيات بلا أدوية، والمواطن بلا كهرباء أو ماء، بينما مئات الملايين من الدولارات تُهدر على مناصب شكلية ومهام غير منتجة.
إنها مفارقة مؤلمة أن تستمر الحكومة في الإنفاق الباذخ على جيش من المستشارين والدبلوماسيين في الخارج، بينما تعجز عن دفع رواتب موظفي الدولة في الداخل لشهور طويلة.
الإصلاح يبدأ من القمة
المرحلة تفرض قرارات شجاعة وغير تقليدية. فكما فعل رئيس رواندا بول كاغامي عندما حلّ البرلمان وأعاد بناء الدولة من الصفر، يمكن لليمن اليوم أن يستلهم تلك التجربة، فيعيد النظر جذرياً في مؤسسات الدولة وهيكلها الإداري.
الإصلاح يبدأ من أعلى الهرم، بإلغاء كافة التعيينات التي تمت بعد عام 2015، وإغلاق السفارات غير الضرورية، وتقليص حجم البعثات الدبلوماسية إلى الحد الأدنى الذي يفي بالمصلحة الوطنية فقط. كما ينبغي إلغاء الهيئات والمجالس الاستشارية الموازية للمؤسسات الرسمية، وإعادة توجيه الموارد نحو القطاعات الحيوية: التعليم، والصحة، والطاقة، والبنية التحتية.
مستقبل يرتكز على الكفاءة لا الولاء
اليمن اليوم بحاجة إلى إدارة رشيدة لا إلى مزيد من المناصب الشكلية. فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق بتدوير نفس الوجوه في مواقع مختلفة، بل باعتماد الكفاءة والنزاهة كمعيار وحيد في التعيين، وبترشيد الإنفاق العام ليخدم المواطن لا المسؤول.
إن متطلبات المرحلة تفرض الواقعية لا المجاملة، والجرأة لا المسايرة. فالوطن الذي أنهكته الحرب لن ينهض ما لم تتوقف نزيفاته الداخلية، ويُغلق باب العبث الإداري والمالي الذي جعل من مؤسسات الدولة عبئاً على الدولة نفسها.
اليمن بحاجة إلى قرار تاريخي يعيد ضبط البوصلة نحو مصلحة الشعب، لا نحو مصالح الأشخاص.
فالإصلاح اليوم ليس خياراً… بل هو طريق البقاء.