منذ لحظات الدوام الأولى ، بدأت الحركة تدب رويداً رويداً في أروقة الجامعة، بين مبانيها العريقة ، وممراتها ، وساحاتها ، ثمة أحلام تتكدس ، وأمنيات تتسابق .
وقفت على شرفة مطلة ، أتأمل منها حركة الحياة الدؤوبة ، فمرت اللحظات سريعة بين ضجيج العلم والعمل .
كانت الشمس في كبد السماء ، حين اقتحم ذلك الموكب باحة الجامعة ، فنثرت المركبات حمولتها ، وفي عجالة انطلقوا قاصدين وجهتهم اليومية .
احتشدوا جميعاً سالكين أحدى الممرات المؤدية إلى صالة الانتظار ، والتحق بهم كل من كانت تحتضنهم الصالة ، كان منهم من أستطاع الدخول مع الموكب ، ومنهم من منع من دخول المكتب ، اقتربت منهم شيء فشيء ، بعد أن شدت مسامعي كلمات تمتم بها أحدى الواقفين ، ممن أغلق الباب دونهم ، بدت هيئته مألوفة لي ، فتمعنت في تقاسيم وجهة ، علها تميط لثام الحيرة عني ، وسرعان ما اسعفتني ذاكرتي المشتتة بغبار السنين ، فأدركت أنني اقف أمام هامة علمية تتلمذت على يديه لسنوات خلت ، فكيف لي ان لا اتذكره ؟ وقد كان منهل علم لا ينضب عطائه .
دنوت منه قائلاً : مرحباً بأستاذي ، انه لشرف لي أن التقيك ، لقد تعلمت منك الكثير ، ولا تزال ارشاداتك ونصائحك تؤتي أكلها كل حين ، منذ ما يقارب عقدين من الزمان، أجابني: مرحباً بك يا ابني ، يسعدني ذلك كثيرا ..
وبملامح منكسرة قال : اقترب مني فثمة درس اخير يجب أن تتعلمه .
أعلم يا بني ، أن هذه الدنيا أولها طموح ، و أوسطها عطاء ، وآخرها رجاء ، فلا تطمح إلى المستحيل فيهزمك هذا الواقع الهزيل ، وكلما استطعت العطاء فجعل عطائك جزيل ، ولا ترجوا حاجتك الا من العزيز الجليل ..
بعدها انصرف وهو يلوح بيده استدرت لأرخي قدماي مستندا على جدار الصالة للحظات ، ثم شخصت ببصري إلى ذلك الباب المغلق ، وشفتاي لاتزال تتمتم بكلمات علقت في مسامعي من الدرس الأخير ، فانصرفت مقادرا على خطى استاذي القدير.