في الرابع عشر من أكتوبر عام 1963، اشتعلت من جبال ردفان شرارة الثورة التي غيّرت وجه التاريخ في جنوب اليمن، وكسرت قيود الاستعمار البريطاني بعد أكثر من 128 عامًا من السيطرة والتبعية. لم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر حدثًا عابرًا أو تمردًا محدودًا، بل كانت انفجارًا وطنيًا نابعًا من عمق المعاناة الشعبية التي تراكمت تحت وطأة الاحتلال والقهر، فجاءت الثورة لتعلن ميلاد اليمني الجديد، الحرّ، السيد على أرضه وقراره. من ردفان، ارتفعت صيحات الأحرار ضد الاستعمار، فاهتزت جبال الجنوب وشواطئ عدن على وقع إرادة لا تُقهر، سطّرها رجالٌ ونساءٌ آمنوا أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع. وقد توّجت هذه الثورة العظيمة كفاحها بتحقيق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، لتصبح إحدى أنصع صفحات التاريخ العربي الحديث، ولتثبت أن الشعوب قادرة على الانتصار مهما طال ليل الاحتلال. لم تكن ثورة أكتوبر معزولة عن سياقها الوطني الشامل؛ فهي جاءت امتدادًا طبيعيًا لوهج ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 في شمال الوطن ضد حكم الإمامة. كان النضال واحدًا في جوهره، رغم اختلاف الجغرافيا وتباين الشعارات، فالاستعمار البريطاني في الجنوب والإمامة الكهنوتية في الشمال كانا وجهين لعملة واحدة الاستبداد والهيمنة وتجريد الإنسان اليمني من كرامته وهويته. وحينما سقطت الإمامة في الشمال وتهاوى الاستعمار في الجنوب، بدا وكأن التاريخ يمنح اليمنيين فرصة ذهبية لصناعة وطنٍ واحدٍ حرٍّ كريم، يقوم على مبادئ الثورة والجمهورية والوحدة والعدالة. لكن بعد 62 عامًا، يقف اليمني اليوم متسائلًا بمرارة ماذا تبقّى من أكتوبر ؟ هل كانت تلك التضحيات العظيمة مجرد فصلٍ جميلٍ في كتب التاريخ، أم أنها مشروع وطني لم يكتمل بعد ؟ أين نحن اليوم من تلك الشعارات ؟ أين ذهبت قيم الثورة والتحرر والسيادة ؟ ولماذا ما زال اليمني، شماليًا كان أو جنوبيًا، يرزح تحت سطوة السلاح والفساد والولاءات الضيقة ؟ لقد تحرّر الجنوب من المستعمر، وسقطت الإمامة في الشمال، لكن اليمن لم يتحرّر بعد من الاستبداد بمختلف أشكاله. فالميليشيات التي تتخذ من “الولاية” شعارًا، ومن الطائفية منهجًا، تعيد اليوم إنتاج الإمامة بثوبٍ جديد، وتعيد الوطن عقودًا إلى الوراء. في المقابل، فإن الفساد الذي نخر جسد “الشرعية” حوّل مؤسسات الدولة إلى مزارع نفوذٍ ومحسوبيات، وترك المواطن بين فكي الميليشيا والفساد. لم يكن هذا ما حلم به أبطال ردفان، ولا ما استشهد من أجله راجح بن غالب لبوزة ورفاقه. لقد حلموا بوطنٍ يليق بكرامة الإنسان، لا بوطنٍ ممزقٍ بين أمراء الحرب وتجار الأزمات. واليوم، في الذكرى الـ62، يجد اليمني نفسه أمام مشهدٍ أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى: وطنٌ منقسم، دولةٌ مغيّبة، ومجتمعٌ يئن تحت ثقل الجوع والحصار والفقر، بينما يتنازع المتنازعون على ما تبقّى من سلطةٍ شكلية. ما تواجهه اليمن اليوم ليس مجرد تمردٍ داخلي أو صراع سياسي، بل مشروعٌ طائفي عابر للحدود يسعى لإعادة إنتاج الإمامة بدعمٍ خارجي معلن. فالميليشيا الحوثية التي ترفع شعارات “الحق الإلهي” ليست سوى امتدادٍ لفكرٍ كهنوتي قديم، مغلّفٍ بعباراتٍ حديثة، يهدف إلى إخضاع الإنسان اليمني من جديد باسم الدين والسيادة. إن بقاء هذه الميليشيا في الشمال لا يشكّل خطرًا على صنعاء وحدها، بل على الجنوب واليمن بأسره، لأن فكر الإمامة لا يعترف بالحدود ولا بالمواطنة، بل يرى في الجميع رعايا تابعين لسلطة “السيد”. وما يزيد المشهد قتامةً هو تغاضي بعض القوى عن هذه الحقيقة، وركونها إلى صفقاتٍ مؤقتة على حساب المبدأ والمستقبل. في المقابل، فإن “الشرعية” التي كان يُفترض أن تكون حارسًا للجمهورية أصبحت في نظر كثيرين جزءًا من الأزمة. فقد تحولت بعض مؤسساتها إلى مسرحٍ للمحسوبية والفساد والارتهان، بدل أن تكون مظلةً حقيقية لحماية الدولة واستعادة العاصمة. إن أخطر ما يواجه اليمن اليوم ليس فقط سلاح الحوثي، بل فساد الشرعية، لأن الشعوب يمكن أن تقاتل عدوها حين تثق بقيادتها، لكنها تنهار حين تكتشف أن من يفترض بهم إنقاذها أصبحوا عبئًا عليها. في كل ذكرى لـ14 أكتوبر، تتزين الشوارع بالأعلام، وتُلقى الخطب والقصائد، لكن ما تحتاجه اليمن ليس مزيدًا من الاحتفالات، بل وقفة صدق مع الذات. فالثورات لا تُكرَّم بالمهرجانات، بل تُصان بالأفعال. علينا أن نسأل أنفسنا هل لا تزال مبادئ الثورة الحرية، العدالة، المساواة، والسيادة حاضرة في حياتنا السياسية ؟ أم أنها تحوّلت إلى شعاراتٍ جوفاء نردّدها كل عام دون أثرٍ في الواقع ؟ إن الوفاء الحقيقي لثورة أكتوبر هو في حماية الجمهورية من كل المشاريع الصغيرة، وبناء دولة مدنية عادلة، واستعادة قرار اليمن السيادي بعيدًا عن الوصاية الإقليمية والتبعية السياسية. لقد علمتنا ردفان أن الحرية لا تُشترى، وأن الكرامة لا تُستجدى، وأن المستبد مهما غلظ بطشه زائل لا محالة. واليوم، كما فعل أجدادنا حين أسقطوا الإمامة وطردوا المستعمر، فإن مسؤوليتنا التاريخية تقتضي أن نقف صفًا واحدًا ضد الاستبداد الجديد، وضد كل من يتاجر باسم الثورة أو الدين أو الوطن. لن يُكتب لليمن مستقبل ما لم يُحاسَب الفاسدون، ويُطرد المتسلطون، وتُستعاد مؤسسات الدولة من أيدي العابثين. عندها فقط، يمكن لثورة أكتوبر أن تستعيد معناها، ولليمن أن ينهض من جديد، لا كدولةٍ منقسمةٍ تبحث عن خلاصها، بل كوطنٍ واحدٍ حرٍّ مزدهرٍ يسوده العدل والإخاء.