آخر تحديث :الجمعة-10 أكتوبر 2025-04:06م

المواطن المطحون بين إرث الماضي ووهم الريع المرهون!

الخميس - 09 أكتوبر 2025 - الساعة 03:28 م
د. محمد عبدالمجيد قباطي

بقلم: د. محمد عبدالمجيد قباطي
- ارشيف الكاتب


لم يعد من المبالغة القول إن المواطن اليمني يعيش اليوم في وضع كارثي غير مسبوق، حيث تتداخل عوامل الفساد المستشري، وانعدام الكفاءة، وسوء الإدارة، مع تداعيات الحرب واقتصادها الموازي الذي فرض نفسه على الحياة اليومية. هذه كلها عوامل مباشرة في طحن المواطن وتدعهور معيشته. لكن مقالنا هذا لا يتناولها بالتفصيل، بل يركّز على توصيف جانب محدد من المشهد الكلي: هشاشة البنية الاقتصادية نفسها، بين إرث الماضي الذي ساد في إدارة اقتصاد مخطط شبه اشتراكي ووهم المحاكاة الريعية، وما ترتب على ذلك من مأزق وجودي يهدد المجتمع والدولة.


إرث الدولة الوصية حين ورثت الدولة اليمنية الحديثة نموذجاً اقتصادياً شبه اشتراكي، كان المواطن قد اعتاد أن يرى في الراتب الحكومي الضمان الأول وربما الوحيد لمعيشته. هذا النمط ألغى روح المبادرة الفردية، وأضعف القطاع الخاص، ورسّخ ثقافة انتظار الوظيفة باعتبارها المدخل شبه الوحيد للحياة الكريمة. ومع مرور الوقت، أصبح الراتب رمزاً للأمان، بينما اختفت المغامرة الاقتصادية والإبداع الفردي.

لم يكن ذلك مجرد خيار اقتصادي بل تحول إلى ثقافة جمعية جعلت المواطن أكثر اعتماداً على الدولة وأقل استعداداً للاعتماد على الذات. حتى في أشد الأزمات، ظلّت الدولة مطالبة بأن تقوم بدور المعيل والمموّل، ولو بشكل صوري أو متعثر. وهم المحاكاة الريعية وفي محيط اليمن، نشأت دول نفطية قامت بنيتها على ما وصفه “حازم ببلوي” و”لوسيان باي” بـ”الدولة الريعية”، حيث تعتمد الدولة على دخل خارجي غير مرتبط بالإنتاج المحلي، وتبني عقداً غير مكتوب مع المواطن: رواتب ودعم مقابل الولاء السياسي والاجتماعي. غير أن اليمن لم يمتلك الموارد الكفيلة بتكرار هذا النموذج. محاولات المحاكاة اصطدمت بواقع سكاني ضخم وموارد محدودة ومؤسسات هشة. فكانت النتيجة “ريعاً زائفاً”؛ تشبّه بالاقتصاد الريعي دون مقوماته، واعتماد على الرواتب دون قدرة مستدامة على تمويلها. اقتصاد هش بين أزمتين المزيج بين إرث الاقتصاد شبه الاشتراكي ووهم الريع أفرز هشاشة مزدوجة: موظف ينتظر راتباً قد لا يأتي، ومجتمع عاجز عن التكيّف مع الأزمات. ومع انهيار المالية العامة، فقد كثير من اليمنيين مصدرهم الوحيد للدخل، بينما لم يعتد المجتمع على الإنتاج الذاتي ولا على اقتصاد السوق. زاد الطين بلّة أن الاقتصاد ظل مرهوناً بالتحويلات الخارجية والمساعدات، وهي مظاهر ريعية بالمعنى الواسع، لكنها لم تتحول إلى استثمارات إنتاجية أو قاعدة لتنويع الاقتصاد. بل صُرفت في الاستهلاك اليومي، وتركت البلاد أسيرة الجمود والارتهان. وهكذا، لم يعد الفقر مجرد نقص في المال، بل صار فقداناً للقدرة والمهارة والاعتماد على الذات، كما يشير “لوسيان باي” في تحليلاته الكلاسيكية للذهنية الريعية.وفوق ذلك، برز اقتصاد الحرب الموازي كعامل آخر يزيد الطين بلة؛ إذ نشأت شبكات مصالح من تجار السلاح والوقود والجبايات غير الرسمية، عززت اقتصاد الظل وأضعفت أي أفق لإصلاح اقتصادي أو مالي. هذا الاقتصاد الطفيلي جعل حياة المواطن أكثر صعوبة، وحال دون عودة عجلة الإنتاج الوطني إلى الدوران.


المواطن بين التبعية والفاعلية في ظل هذه البنية الاقتصادية الهجينة، تحوّل المواطن من فاعلٍ يسهم في الإنتاج وصناعة القرار الاقتصادي والاجتماعي إلى متلقٍ سلبي للأوامر والمساعدات. ثقافة التبعية أضعفت الحس المدني وروح المسؤولية الجماعية، وأصبح المواطن يرى الدولة باعتبارها “المعيل” لا “الإطار الجامع” الذي ينظّم العلاقات ويحفّز المبادرة.


هذا التحوّل لم يضعف فقط إمكانات الاقتصاد، بل قوّض أيضاً أسس المشاركة المجتمعية الفاعلة، فالمجتمع المستهلك لا يستطيع أن يكون مجتمعاً صامداً في وجه الأزمات. وإلى جانب ذلك، تآكلت الثقة بالنفس لدى الفرد العادي، فصار يرى المبادرة أو المغامرة الاقتصادية ضرباً من المخاطرة غير المحسوبة، وهو ما عمّق شعور العجز الجماعي.نحو عقد اقتصادي جديد الخروج من هذه الدائرة يتطلب شجاعة في الاعتراف بأن اليمن لا يملك مقومات الدولة الريعية، ولا يمكن أن يظل أسير وهمها. السبيل هو إعادة صياغة عقد اقتصادي جديد يقوم على: 

•تحفيز المبادرات الفردية والمشاريع الصغيرة والمتوسطة. • تنمية الزراعة والصناعات التحويلية والخدمات المنتجة.   •    تطوير القطاع المصرفي بما يمكّن من نشوء شركات مساهمة وسوق أوراق مالية.  • تحرير الذهنية المجتمعية من عقدة “الوظيفة–الراتب” إلى ثقافة الإنتاج والابتكار.  • إشراك المجتمع المدني في وضع سياسات التنمية بدل تركها رهناً بيد النخب الضيقة.غير أن هذا العقد الجديد لن يتحقق بمجرد النصوص أو الشعارات، بل يحتاج إلى إرادة سياسية صلبة، ومؤسسات شفافة، ورقابة فاعلة، كي يتحول من فكرة إصلاحية إلى واقع ملموس في حياة الناس.


خاتمة إن مأساة الاقتصاد اليمني ليست في شح الموارد وحدها، بل في الذهنية التي تشكّلت عبر عقود: ذهنية الدولة الوصية والريع الزائف. وقد عبّر “ببلوي” عن هذه المفارقة حين قال إن الدولة الريعية “تشتري السكون لكنها لا تبني استقراراً”. وما يحتاجه اليمن ليس شراء السكون المؤقت، بل تأسيس استقرار دائم يقوم على الإنتاج والمبادرة والمعرفة.فالدولة القوية ليست التي تدفع الرواتب فقط، بل التي تصنع مواطنين قادرين على خلق الفرص والتكيّف مع المتغيرات. وهذا وحده هو الطريق لإنقاذ اليمن من أزمته البنيوية، وإعادة المواطن من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل.