يوم الجمعة الماضية غادر دنيانا الفانية إلى الدار الآخرة المؤرخ الحضرمي الأستاذ حسن بن محمد منيباري الكثيري أبو جلال اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر له ويرحمه ويرزقه الفردوس الأعلى من الجنة ووالدِينا وجميع المسلمين،
والأستاذ أبو جلال من مواليد عام 1946م بقرية (خزام) حصون آل منيباري ونشأ بها، وتلقّى تعليمه على يد المربّي والعالم الشيخ احمد بن عبد الله باسلامه الكندي (رحمه الله) ثم هاجر إلى المملكة للبحث عن عمل لإيجاد مصدر للرزق والعيش الكريم كغيره من أبناء حضرموت الذين وجدوا في الديار السعودية ملاذاً آمناً لهم ولأسرهم،
لم يكتفِ أبو جلال رحمه الله بالعمل بل كافح والتحق بالتعليم النظامي حتى أكمل الثانوية العامة ثم التحق بالجامعة وأكمل البكالوريوس،
ومثل هذه القصص مُلهِمة لبعض شباب اليوم الذين يركنون للدّعة وتضييع الوقت في غير ذي جدوى،
معرفتي بأبي جلال رحمه الله منذ ما يقارب ثمانية عشرة عاماً تعرفت عليه في الرياض ذات ليلة جميلة أكرمني فيها ابن عمتي صالح باسلامه الكندي بدعوته ودعوة غيره من الشخصيات الحضرمية الذين تشرفت بمعرفتهم،
ثم بعد ذلك جمعتنا لقاءات كثيرة في أماكن متعددة وكان الهمّ الحضرمي عادة ما يكون حجر الزاوية في كل أحاديثنا ونستعرض التاريخ بكل تفاصيله واستفدت كثيراً من المخزون المعلوماتي للفترة التي عاصرها وخاصة أنه من مستلهمي الفكر التنويري الارشادي الذي أشرق على حضرموت ذات يوم وكان له دور في نفض غبار الجهالة والخرافة والسير نحو العلوم والحداثة،
وفي هذا الجانب حدّثنا عن كثير من الأنشطة التي أقيمت في ذلك الوقت وكان للشعر حضوراً لما له من دور كبير في استنهاض الحماسة والشعور بالمسؤولية لدى المواطن الحضرمي للانطلاق نحو التحرر والرفعة والسمو والابتعاد عن التخلف والجهالة والخرافة،
وقد شرح لنا الحالة التي تعيشها حضرموت حينها وكان هناك عدد من رموز الدعوة الإصلاحية التنويرية لهم مواقف خلّدها التاريخ،
فقال لنا مما يحفظه ما قاله مفتي الديار الحضرمية في ذلك الوقت الشيخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف:
قد بُحّ صوتي بالنصيحة بينهم
ولكنهم عن كلِّ فائدة صُمُّ
ومن كان منهم فيه نسك فإنه
تولّى عليه الضعف واشتمل الوهم
يريدون من أهل القبور معونةً
وأنّى يعين الناس من ضمّه ردمُ
وكذلك ما قاله الشاعر والأديب التنويري الأستاذ عمر عبد الرحمن السقاف مخاطباً الشعب:
أيها التائهون في الأحقاف أتضيعون بينَ كاف وقاف؟
ويقصد بالكاف والقاف سلطنتي الكثيري والقعيطي،
ويطالب بالخروج من مرحلة التيه والضياع،
ومن أجمل ما قاله أيضاً تلك الرائعة للأديب الأستاذ عبد الرحمن أحمد باكثير الكندي التي ألقاها بمناسبة عيد جلوس السلطان الكثيري عام 1962م والتي مطلعها:
حضرميٌ عاش في أقصى المهاجر
مُصلت العزم على الجِدِّ مثابر
لم يحل قطٌّ إلى آمالـــــه
مسلكٌ وعرٌ على الآلام صابر
ضاق عن نيل المنى في وطنٍ
ساده البؤس في الأوهام سادر
قانعاً بالعيش صعباً جاهلاً
إنّ ركب الكون نحو المجد سائر
عوّدوه الذّلَ حتى اعتاده
فهو بالإذلال أضحى غير شاعر
زعموا أنّ جديد العلمِ شرٌّ
وعلى الناشئ حفّته المخاطر
أو يبني المجد شعبٌ جامدٌ؟
لفنون النصر والتجديد ناكر
أوليس العلم حقاً منقذاً؟
وهل الإنقاذ من تلك المقابر؟
تُرّهاتٌ زُرِعَتْ باطــلــةٌ
وخرافاتٌ أماتت للمشاعر
تلك الصيحات التنويرية في ذلك الزمن أدركها الكثير فكانت مشعل نور أضاء لهم الطريق بعد قرون كانت حالكة الظلام،
هذه الإشارات المضيئة سمعتها منه مباشرة وصداها مازال يتردد في أذنيّ ومعانيها تجول في فكري،
وأيضاً تضمّنها كتابه (أثمان المواقف) والذي أهداني نسخة منه وضمنها إهداءً جميلاً بخط يده قال فيه: (بكل الفخر يسرني أن أهدي هذه النسخة من هذا البحث التي تحتوي على نتفٍ من النشاط الاجتماعي في مرحلة من تاريخ حضرموت – لأخي وصديقي الأستاذ محمد بالفخر)
ولأبي جلال أيضا سبعة عشرة حلقة تلفزيونية عن تاريخ حضرموت بثتها قناة رشد وموجودة باليوتيوب سيستفيد منها كل من أراد أن يعرف عن تاريخ حضرموت القديم والمعاصر،
وكنت قد اتفقت مع ابنه جلال لتسجيل سلسلة حلقات نستخلص منه الكثير من المعلومات مما لم يقلها،
لكننا للأسف تأخرنا وانقضى عمره المكتوب له
رحمه الله.