ليس في تاريخ اليمن الحديث حدث يوازي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 في عمق تأثيره وشمول تحوّله. لقد كانت تلك الليلة الفاصلة بمثابة الانفجار العظيم الذي أخرج اليمن من ظلمات القرون الوسطى إلى فجر الحرية والجمهورية. ميلاد الجمهورية لم يكن مجرد تبديل لواجهة الحكم أو رفع علم جديد، بل كان قطيعة كاملة مع نظام إمامي كهنوتي حكم بالجهل والعزلة والتمييز الطبقي والديني، وأبقى اليمنيين أسرى الفقر والحرمان والجهل. سبتمبر لم يكن مجرد ثورة سياسية، بل ثورة في الوعي والكرامة والهوية. لقد أعاد صياغة العلاقة بين اليمني ونفسه، فأصبح مواطناً له حقوق وواجبات، لا مجرد تابع في بلاط الإمام. أعاد رسم علاقة اليمن بالعالم، فخرجت البلاد من عزلتها إلى فضاء العصر الحديث. سبتمبر كان وعداً بأن اليمن يمكن أن يكون دولة، يمكن أن يكون وطناً، يمكن أن يكون بيتاً لأبنائه جميعاً. لكن، ويا للمفارقة، وبعد أكثر من ستة عقود على ميلاد الجمهورية، نجد أنفسنا نعيد ذات المعركة معركة البقاء أو الفناء. ميليشيا الحوثي ليست سوى النسخة المحدثة من الكهنوت الإمامي، تحاول أن تطمس سبتمبر وتعيدنا إلى العصور المظلمة. هم الكابوس الذي يطارد ذكرى الجمهورية، ويحاول استبدال أهداف سبتمبر العظيمة بخرافة الولاية والصرخة المستوردة من قم وطهران. إنهم يريدون إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، لكن التاريخ لا يعود، والجمهورية لا تموت. لقد حاول الحوثيون تزييف وعي الأجيال من خلال المناهج، واستبدال مبادئ سبتمبر بشعارات طائفية دخيلة، لكن الذاكرة الجمعية لليمنيين أعمق من أن تُمحى بكتاب مدرسي أو خطاب مسموم. فسبتمبر لم يعد حدثاً عابراً يُروى في كتب التاريخ، بل أصبح جزءاً من هوية كل يمني حر، كالشمس التي لا يملك أحد أن يحجب نورها. نعم، الجمهورية تمر اليوم بأصعب امتحاناتها. الدولة مغتصبة، والسيادة منتهكة، والشعب يتوزع بين حرب وفقر وتشريد. لكن رغم كل ذلك، لا يزال اليمني يقف شامخاً وهو يهتف “تحيا الجمهورية اليمنية”. لا يزال يؤمن أن معركة استعادة الدولة ليست ترفاً سياسياً، بل معركة حياة أو موت، معركة وجود وبقاء. إن ثورة 26 سبتمبر لم تكن صدفة سياسية، بل كانت حصيلة دماء وتضحيات ونضال استمر عقوداً. واليوم، الواجب يفرض علينا أن نصون ذلك الإرث، أن نحميه بأصواتنا وأقلامنا وأجسادنا، وأن نعيد الاعتبار إلى دولة مدنية عادلة تحقق المساواة والكرامة لكل أبنائها. من يظن أن الجمهورية يمكن أن تُهزم لا يعرف اليمنيين. ومن يظن أن الحوثيين قادرون على إطفاء شعلة سبتمبر لا يفهم معنى الثورة. فسبتمبر لم يكن لحظة عابرة، بل ولادة جديدة، والولادة لا يمكن إلغاؤها. لقد كانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وعداً بالحرية، عهدًا بالكرامة، وميلاداً للوطن. كانت صرخة مدوّية في وجه الاستبداد لا عبيد بعد اليوم، لا تمييز بعد اليوم، لا عزلة بعد اليوم ! لقد أخرجت اليمن من ليل طويل، وفتحت أبواب الشمس أمام أجيال متعاقبة. واليوم، يحاول الحوثي أن يطمس أهداف سبتمبر، أن يزور المناهج، أن يحل الصرخة الخمينية محل نشيد الوطن، أن يستبدل علم الجمهورية برايات الكهنوت. لكنه يجهل أن سبتمبر لم يعد مجرد تاريخ، بل صار دماً يسري في عروقنا، وهوية تسكن أرواحنا، وسلاحاً لا يُكسر في أيدينا. يا أبناء اليمن أمامنا واجب مقدس استكمال مشروع سبتمبر، استعادة دولتنا، بناء وطن يتسع لكل أبنائه بلا تمييز ولا إقصاء ولا تهميش، وطن يقوم على العدل والمواطنة المتساوية، وطن لا سيد فيه ولا خادم ولا زنبيل ولا قنديل، وطن الحرية والكرامة والديمقراطية. إن الجمهورية ليست شعاراً نردده، بل حياة نصنعها، ومستقبل نرسمه، ومعركة نخوضها حتى النصر. ولن يكون النصر إلا حليفنا، لأننا على حق، ولأننا نحمل إرث ثوار سبتمبر وأكتوبر الذين علمونا أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعاً. تحيا الجمهورية اليمنية، تحيا سبتمبر، وتحيا دماء الشهداء التي لم تُسفك عبثاً. سيظل اليمنيون يحيون هذا اليوم العظيم لا كذكرى، بل كمعركة مستمرة. وسيظل العهد قائماً لا عودة للكهنوت، ولا عودة للإمامة، ولا عودة للاستبداد. الجمهورية قدرنا، والجمهورية خيارنا، والجمهورية مستقبلنا. واليوم، كما قبل 63 عاماً، يصرخ اليمني في وجه المستبد والكهنوتي والطائفي تحيا الجمهورية اليمنية.