د. وسيم فضل محسن
في ظل التحديات الجسيمة التي تمر بها اليمن، تبقى مسألة استقطاب الكفاءات الإدارية واحدة من القضايا الجوهرية التي تحدد مصير إعادة بناء مؤسسات الدولة أو استمرارها في حالة الشلل والترهل، فبعد سنوات من الحرب والانقسام، ظهرت الحاجة الملحّة إلى إدارات فاعلة تقود عملية إصلاح شاملة، لكن الواقع يُشير إلى مسار معاكس، تُهيمن عليه الاعتبارات السياسية والولاءات الضيقة بدلًا من الكفاءة والنزاهة.
في أغلب مؤسسات الدولة، باتت الوظيفة العامة أداةً تُستخدم لمكافأة الحلفاء، أو تثبيت النفوذ، بدلاً من أن تكون وسيلة لخدمة المواطن وتحقيق التنمية، هذا التسييس المفرط في التعيينات أدى إلى تغييب الكفاءات الحقيقية، ودفع الكثير من أصحاب المؤهلات والخبرات للهجرة أو العزوف عن العمل في القطاع العام.
بحسب بيانات غير رسمية، غادر البلاد خلال العقد الأخير عشرات الآلاف من الأكاديميين والمهنيين والخبراء، بعضهم تقلّدوا مناصب قيادية في الخارج، فيما بقيت مؤسسات الدولة في الداخل تعاني من نقص فادح في الكوادر المؤهلة. ويكفي أن ننظر إلى طريقة إدارة بعض المرافق الحيوية لنكتشف حجم الفجوة بين الإمكانيات المطلوبة والواقع المفروض، إذ يفتقر اليمن اليوم إلى نظام وطني موحد وشفاف لتوظيف الكفاءات، يقوم على معايير الجدارة، لا على الانتماء السياسي أو المناطقي أو العائلي، كما أن الهيئات المعنية بالخدمة المدنية تعاني من ضعف في الأداء، وتفتقر إلى قاعدة بيانات دقيقة للكفاءات الوطنية التي يمكن الاستفادة منها في مرحلة البناء القادمة.
ويعد الاستثمار في الكادر البشري ليس ترفًا، بل هو ضرورة لا غنى عنها، لا سيما في ظل الحاجة لإدارة ملفات معقدة مثل إعادة الإعمار، والإصلاح الاقتصادي، وتحقيق الأمن المؤسسي، ولا يمكن الحديث عن دولة قوية بدون جهاز إداري فعّال، يقوده أصحاب كفاءة لا أصحاب نفوذ.
ويجب العمل على وضع معايير وطنية واضحة للتوظيف والترقية في المناصب الإدارية، والاستفادة من الكفاءات الوطنية في الخارج عبر برامج عودة مدروسة ومحفّزة، وفصل الوظيفة العامة عن الصراعات السياسية واعتبارها ميدانًا للخدمة لا للمكافآت، وتمكين الشباب والخريجين عبر برامج تدريب وتأهيل حقيقية.
ويمتلك بلدنا من العقول والخبرات ما يكفي لإحداث نهضة حقيقية، تبدو المعضلة الأكبر في طريقة الإدارة، لا في غياب القدرات، وإذا أرادت الدولة النهوض من ركامها، فعليها أن تبدأ من الداخل، ومن المؤسسات التي تُدار بكفاءة لا بقرارات ارتجالية وولاءات محدودة الأفق.
إن استقطاب الكفاءات هو الخطوة الأولى نحو بناء دولة مؤسسات لا دولة أفراد... فهل من بداية جادة؟