في خضم الحرب الإعلامية والسياسية الدائرة اليوم حول الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، برزت إلى السطح استعادات لرموز دينية توراتية قديمة، من بينها "حجارة داوود" و "عربات جدعون"، وهي استعارات تستدعي مواجهة غير متكافئة، يتغلب فيها المستضعف أو القليل العدد على الجبّار المدجج بالقوة.
داوود وجالوت: الرمز الأول
يروي سفر صموئيل الأول في العهد القديم قصة الراعي الفتى داوود، حين تحدّى الفلسطيني جالوت، المقاتل العملاق الذي أرهب بني إسرائيل. لم يستخدم داوود سيفًا أو درعًا، بل اختار مقلاعًا وخمس حجارة ملساء. وبحجر واحد أصاب جبهة جالوت وأسقطه، ثم قطع رأسه بسيفه.
أما القرآن الكريم فقد أوجز القصة في قوله تعالى: "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ..." (البقرة 251). وهنا تتركز الرسالة على أن النصر كان بإذن الله، وأن الملك والحكمة جاءا منحة إلهية بعد الاختبار.
منذ ذلك الحين، غدت "حجارة داوود" رمزًا لانتصار الإيمان البسيط على آلة الحرب، وصورة خالدة لتمكن المستضعف من قلب الموازين.
جدعون وعرباته: الرمز الثاني
في العهد القديم أيضًا، وتحديدًا في سفر القضاة، يظهر جدعون الذي واجه المديانيين بجيش صغير لا يتعدى ثلاثمائة مقاتل، بعدما أمره الرب أن يقلل عدده ليكون النصر واضحًا بيد الله لا بكثرة الجنود.
المديانيون كانوا يملكون "عربات حديدية" مرعبة، لكن جيش جدعون القليل العدد، بإيمانه وثباته، حقق النصر. ومن هنا أصبحت "عربات جدعون" رمزًا للمبالغة في القوة المادية التي تنهزم أمام التصميم والإرادة.
الرموز بين التوظيف الديني والسياسي
اليوم، تُستعاد هذه القصص والرموز في الخطاب السياسي والإعلامي حول الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فالإسرائيليون يستلهمون قصص داوود وجدعون لتصوير أنفسهم "القلة المحاطة بالأعداء"، بينما يرى الفلسطينيون في داوود رمزًا لصمود المستضعف أمام آلة الحرب الضخمة.
هذا التوظيف المتناقض للرموز يكشف عن خطورة استدعاء الموروث الديني في سياقات سياسية معاصرة. فالقصص التي جاءت للعبرة الروحية والأخلاقية تتحول إلى أدوات دعائية تُستخدم لتبرير العنف أو مقاومته.
خاتمة
إن رمزية "حجارة داوود" و"عربات جدعون" تعكس في جوهرها أن التفوق الحقيقي ليس في عدد الجنود ولا في حجم السلاح، بل في الإيمان بالقضية وعدالة الموقف. غير أن تحويل هذه الرموز إلى شعارات سياسية في معركة معاصرة، يزيد من تعقيد الصراع ويمنع النظر إليه كقضية حقوقية وإنسانية تستدعي حلولًا عادلة، لا مجرد استدعاءات أسطورية من الماضي.