في بلدٍ ينهشه الفقر، ويكاد يختنق من الجوع، وتتهاوى فيه العملة كما تتهاوى حياة الناس، يظهر ما يُسمّى بـ”كشف الإعاشة” كأحد أبرز مظاهر الفساد المنظّم والمحمِي بجدارٍ من الصمت والتواطؤ. ليست هذه الإعاشة معاشًا للضعفاء، ولا دعمًا للفقراء، بل قائمة بأسماء آلاف الأشخاص الذين يتقاضون أموالًا طائلة من خزينة الدولة دون أن يقدموا أي خدمة تذكر. المصيبة أن هذا الكشف لا يجرؤ أحد على المطالبة بإلغائه، ببساطة لأن جميع المتنفذين وأقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم مشمولون فيه سواء كانوا من مجلس القيادة وأعضاؤه، الوزراء في الحكومة، رئاسة البرلمان والشورى وقيادات الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها. إذن، من الذي سيلغيها ؟ رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي، محمد حسين حلبوب، كشف بالأرقام حجم الفضيحة 12 مليون دولار شهريًا تُصرف على “الإعاشة”. وهو ما يعادل 850 مليار ريال سنويًا. أي ما يقارب 25% من ميزانية الدولة. ويوجد أكثر من 2000 اسم مدرجون في هذه القائمة، حيث أطلق عليهم لقب “الراقدون في الخارج”، لا يقدمون أي خدمة حقيقية للدولة وفي نفس الوقت الدولة لاتحتاج إلى خدماتهم. هذه الأرقام تكفي لبناء مدارس ومستشفيات، لتشغيل آلاف العاطلين، لتغطية رواتب الموظفين المقطوعة منذ سنوات. لكنها تُهدر بلا خجل على شبكة من المصالح السياسية التي جعلت من “الإعاشة” رشوة جماعية مقننة تضمن صمت الجميع، في حين يئن المواطن العادي من العجز عن شراء دبة غاز أو سلة غذائية. الخطير في “كشف الإعاشة” أنه ليس سرقة فردية يقوم بها وزير أو مسؤول، بل هو فساد مؤسسي محمي بتحالف كامل. لا طرف واحد يمكنه الاعتراض، لأن الجميع مستفيد. إنها شبكة مغلقة “أعطِ الجميع نصيبهم ليصمتوا، ولا أحد يعترض على أحد”. بهذا الشكل، تحولت الإعاشة إلى سقف يحمي كل أشكال النهب الأخرى، وإلى رشوة كبرى تضمن تماسك شبكة النفوذ الحاكمة. بينما تُهدر ملايين الدولارات على “راقدين في الخارج”، يعيش ملايين اليمنيين جحيمًا يوميًا ارتفاع أسعار الغذاء إلى مستويات غير مسبوقة، انعدام الخدمات الأساسية من كهرباء وماء وصحة وتعليم والأمن، وانهيار العملة الذي جعل الرواتب الهزيلة بلا قيمة تُذكر. وعلى الجانب الآخر لا شك أن الشارع اليمني غاضب وسائل التواصل الاجتماعي تضج يوميًا بالهاشتاقات والمنشورات التي تطالب بإلغاء الإعاشة. لكن هذا الغضب بقي حبيس الشاشات. لم يتحول إلى فعلٍ على الأرض، ولم يشكل حراكًا جماهيريًا قادرًا على الضغط الفعلي. وهنا تكمن المعضلة الفساد يزدهر حين يكتفي الناس بالشكوى. وحين يصبح الغضب مجرد تنفيسٍ افتراضي، يظل المستفيدون في مأمن، يوزعون حصصهم ويضحكون من بعيد على صراخٍ لا يهز كراسيهم. الإعاشة ليست مجرد بند مالي، إنها مؤشر على انهيار شامل من خلال الإفلاس الاقتصادي حيث ان ربع الميزانية تذهب إلى غير مستحقيها. وكذلك انهيار أخلاقي لان الجميع متواطئ، من أعلى الهرم إلى قادة الأحزاب. كما تُستخدم الإعاشة لإسكات الخصوم وترويض المعارضة وشراء الولاءات. بالاضافة إلى قتل الأمل حين يرى المواطن أن الفساد محمي بالقانون، يفقد ثقته بأي إصلاح أو تغيير. الحقيقة الصادمة أن لا أحد داخل المنظومة قادر على إلغاء هذه الفضيحة، لأن الكل متورط. السياسيون، العسكريون، القيادات الحزبية، والمعارضون والانفصاليون وحتى بعض الأصوات التي تزايد ضد الفساد، تجد نصيبها في نفس القائمة. السبيل الوحيد هو المجتمع. لكن المجتمع اليوم منهك، مشتت بالصراعات، مسحوق بالجوع، فاقد للثقة في نفسه وفي قدرته على فرض إرادته. ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا حين يتحول الغضب من ضجيجٍ افتراضي إلى حركة شعبية منظمة، عندها فقط يمكن أن يهتز هذا الجدار الصلب من الفساد. “كشف الإعاشة” ليس مجرد قائمة أسماء. إنه حكم إعدام معلن على الدولة واقتصادها ومستقبلها. إنه جريمة سياسية جماعية يشارك فيها الجميع ويحميها الجميع، ويدفع ثمنها الفقراء وحدهم. وما لم يدرك المجتمع أن صمته هو الوقود الذي يغذي هذه الجريمة، فإن الإعاشة ستبقى تكبر، وستتحول من فضيحة إلى قاعدة ثابتة لإدارة الدولة. إنها ليست قضية مالية فحسب، بل معركة بقاء إما أن يكسر الشعب هذا الجدار، أو أن يستمر في دفع ثمن صمته جوعًا وذلًا وضياعًا.