آخر تحديث :الأربعاء-10 ديسمبر 2025-07:37م

بين وهج الفكرة وضعف الفعل: صالح بن عفيف اليافعي... المصلح الذي ابتلعته القبيلة

الخميس - 28 أغسطس 2025 - الساعة 08:44 م
سناء العطوي

بقلم: سناء العطوي
- ارشيف الكاتب



في تاريخ الجنوب اليمني، كثير من الأسماء تلمع ثم تخبو، لأن الذاكرة الجمعية تفضّل أن تحفظ صدى البنادق أكثر من همس الكلمات.

ومن بين تلك الأسماء التي دفنها الصمت: الفقيه صالح بن عفيف اليافعي، الرجل الذي حاول أن يكسر جدار القبيلة بالكلمة، فانتهى أن ابتلعته القبيلة نفسها، تاركًا وراءه مشروعًا بقدر ما كان جريئًا، كان هشًّا.


ولد ابن عفيف في يافع العليا في القرن التاسع عشر، في زمنٍ كانت فيه القبيلة هي الدولة، والعرف هو القانون، والمستعمر البريطاني يمد نفوذه بهدوء من عدن نحو الداخل ،في هذا المشهد المعقّد، أسس ابن عفيف مدرسة دينية صغيرة بجوار المسجد، لم تكن مجرد مكان لتعليم الفقه والقرآن، بل كانت مشروعًا لإعادة تعريف السلطة: أن يخضع الشيخ لنصّ الكتاب، لا أن يخضع الكتاب لسلطة الشيخ.


كان في منطقه بريق ثوري: لقد تجرأ أن يطرح السؤال الذي لم يجرؤ غيره على رفعه علنًا: أيهما أولى بالطاعة، النص أم العرف؟ ولأنه سأل، فقد وُصم. البعض اعتبره مجددًا سابقًا لعصره، والبعض الآخر رأى فيه خطرًا على "توازن" القبيلة. وهكذا، صار مشروعه محاطًا بالريبة، لأنه ببساطة هدد ركائز سلطةٍ عمرها قرون.


أقوى ما أنجزه


ورغم أن مشروعه ظل هشًّا، إلا أن له أعمالًا راسخة لا يمكن إنكارها.


فقد أسس مدرسة علمية في قلب يافع كانت بمثابة بذرة تعليمية نادرة في بيئة يغلب عليها منطق السلاح. وأدخل خطاب الإصلاح الاجتماعي إلى مجالس القبائل، حيث كان يتجرأ على تذكير الشيوخ بأن الشرع فوق العرف.


كما أنه رفض أن يُحوّل الدين إلى غطاء سياسي للمستعمر أو للقبائل المتصارعة، مصرًّا على استقلالية الكلمة.

وربما كان أهم ما تركه وراءه هو إيمانه العميق بأن التغيير يبدأ بالوعي لا بالبندقية، وهي فكرة جريئة في زمنه.


أضعف ما تركه


غير أن أعظم قوته كان أيضًا مصدر ضعفه.

فقد اكتفى بالوعظ والتعليم، دون أن يصوغ شبكة اجتماعية أو سياسية تحمي فكرته، لم يسعَ إلى تخريج تلاميذ يحملون مشروعه بعده، ولم يشكل حاضنة تدعم رؤيته.


بل إن بعض الروايات تشير إلى أنه، في لحظة ضعف، اضطر لمهادنة بعض الشيوخ برسائل فسّرها الناس على أنها تنازل عن مبادئه... وهكذا، بدا مشروعه مثاليًّا في الفكر، هشًّا في التطبيق.


بين الفكرة والمصير


لقد كان أعظم ما قدمه ابن عفيف هو فكرته: أن الإصلاح لا يبدأ من السلاح بل من العقل.

لكن أضعف ما تركه هو عجزه عن تحويل تلك الفكرة إلى قوة واقعية.


اليوم، حين نعيد قراءة سيرته، يطل السؤال المؤلم: لو أن يافع تبنّت مشروع ابن عفيف، هل كان الجنوب سيمتلك تاريخًا مختلفًا؟ أم أن مصير كل محاولة لكسر جدار القبيلة أن تُدفن في صمت، ليظل صوت البنادق أعلى من صوت الكلمة؟


إن شخصية صالح بن عفيف ليست درسًا في المجد بقدر ما هي مرآة لواقعنا: الأفكار العظيمة قد تُولد، لكن من دون قوة تحميها تتحول إلى صدى عابر. وهو ما حدث للفقيه اليافعي... حتى غاب عن ذاكرة التاريخ.


سؤال مفتوح


هنا يطل جدل أكبر: هل خانت يافعُ رجالها حين تركتهم يواجهون مصير النسيان وحدهم؟ أم أن هؤلاء الرجال هم من خانوا أحلامهم حين لم يحولوا الفكرة إلى فعل؟

وبين الاتهام والتبرئة، يظل ابن عفيف شاهدًا صامتًا على معضلة لم تُحسم حتى اليوم: من الأقوى في اليمن... الكلمة أم القبيلة؟




الگاتبة : سناء العطوي