منذ تحرير أجزاء من الأراضي اليمنية من ميليشيا الحوثي، كان الأمل معقوداً على أن تتحول هذه المناطق إلى نواة لبناء الدولة واستعادة الثقة بين المواطن والسلطة. غير أن الواقع سرعان ما كشف عن صورة مغايرة تماماً الفساد لم ينحسر بل تمدد، والمصالح الخاصة تغلبت على المصلحة العامة، فيما بقيت الدولة بكل مؤسساتها غائبة أو مغيبة. المشهد في المناطق المحررة باليمن لا يختلف كثيراً عن مشاهد الانهيار في بقية الجغرافيا اليمنية، لكنه يحمل مفارقة قاسية الأرض التي يفترض أن تكون نموذجاً لبناء الدولة وإعادة الثقة في “الشرعية” أصبحت ساحة مفتوحة لشبكات فساد متشابكة تتقاطع فيها مصالح السياسيين والنافذين والتجار، مع غطاء من التواطؤ الإقليمي أو التغاضي الدولي. الحكومات التي تعاقبت تحت راية الشرعية لم تتعامل مع الملفات الاقتصادية والخدمية باعتبارها أولوية وطنية، بل باعتبارها فرصاً لتقاسم النفوذ والثروة. تم غض الطرف عن صفقات مشبوهة، وإهدار ممنهج للمال العام، حتى أصبحت الوظيفة العامة سوقاً للمحاصصة الحزبية لا ميداناً للكفاءة والمهنية. ومع غياب مؤسسات رقابية حقيقية، تحولت الوزارات والمصالح الحكومية إلى إقطاعيات مصغرة تدار وفق موازين الولاء السياسي لا احتياجات المواطن. وعلى الجانب الآخر ورغم رفعه شعار الانفصال وتمثيل الجنوب، إلا أن المجلس الانتقالي لم يكن بعيداً عن دائرة الفساد. تورّط بدوره في ممارسات مالية وإدارية زادت من تشابك المشهد، بدءاً من سيطرة بعض قياداته على الموارد المحلية، وصولاً إلى فرض شبكات محسوبية جديدة أعادت إنتاج ذات النموذج الذي يعاني منه المواطن. وهكذا، لم يكن الجنوب في ظل نفوذ الانتقالي أكثر حظاً من الشمال في ما يخص الشفافية أو العدالة. النافذون والتجار، ومعهم سلطات محلية فاسدة، لعبوا دوراً بارزاً في تحويل المناطق المحررة إلى مسرح لتراكم الثروات الخاصة على حساب الخدمات العامة. تم تسييس الإيرادات المحلية وتوزيعها وفق الولاءات، فيما ظل المواطن يواجه الانقطاع المستمر للكهرباء والمياه، وغياب المرتبات المنتظمة، وانهيار العملة. الشركاء الإقليميون لم يكونوا بمنأى عن هذه الفوضى، لكنهم تعاملوا معها من زاوية مصالحهم لا من زاوية التزامهم تجاه الشعب اليمني. فمن الطبيعي أن تتعامل الدول وفق أولوياتها الإستراتيجية، لكن النتيجة أن اليمنيين وجدوا أنفسهم عالقين بين تجار حروب محليين وحسابات إقليمية باردة، حيث لا مكان للعاطفة ولا للبعد الإنساني في معادلات السياسة. كل ما سبق جعل الأزمة في اليمن تراوح مكانها لا الشرعية قادرة على تحرير صنعاء كما تَعِد أنصارها، ولا المجلس الانتقالي جاد فعلاً في إنجاز مشروع الانفصال الذي يرفع شعاره. الجميع عالق في دائرة الفساد التي تدر عليهم ملايين الدولارات سنوياً. المواطن وحده من يدفع الثمن، بتفاقم معاناته الإنسانية وانعدام الخدمات واستمرار الفوضى الأمنية. المعضلة الجوهرية تكمن في غياب إرادة سياسية حقيقية لمعالجة جذور الفساد، وفي أن الشرعية نفسها لم تُبنَ على الكفاءة بل على المحاصصة، الأمر الذي جعل كل فاسد محمياً بحزبه أو جماعته. أما القوى الإقليمية والدولية فهي، في نهاية المطاف، ليست جمعيات خيرية، بل كيانات تعمل وفق منطق المصالح، مما يجعلها أكثر ميلاً لإدارة الأزمة لا حلّها. اليمن اليوم يقف على مفترق طرق إما أن يظل رهينة هذه الشبكات الفاسدة، أو أن تتبلور حركة مجتمعية ووطنية تتجاوز لعبة المحاصصة وتفرض مشروع بناء دولة على أساس الكفاءة والمساءلة. دون ذلك، سيبقى الوضع مجرد دوران في حلقة مفرغة من الأزمات المصطنعة التي يستفيد منها تجار الحروب، بينما يزداد الوطن والمواطنون خسارة.