بقلم: م/فضل علي مندوق
من بين زوابع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف باليمن، وتحديداً في مدينة عدن التي تتوق إلى الاستقرار وتجدد الحياة، يبرز اسم الصحفي فتحي بن لزرق، رئيس صحيفة "عدن الغد"، ليس مجرد حضور إعلامي عابر، بل كرمز للصحافة المتجذرة في خدمة المجتمع والملتزمة بقضايا المواطن البسيط. إن الثقة التي منحت لجمهوره لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج سنوات من العمل الدؤوب، والالتزام بالمهنية، والجرأة في مواجهة الفساد، والانحياز الواضح لقضايا المواطنين العاجزين عن إيصال صوتهم. وقد تمكن بن لزرق من تحويل منصته الإعلامية إلى منبر حي يترجم هموم الناس اليومية إلى خطاب إعلامي مؤثر، يسعى لإحداث تأثير ملموس على الواقع الاجتماعي والاقتصادي في عدن واليمن عموماً. هذه المكانة المتميزة تجعل منه حالة فريدة تستحق الدراسة والتحليل، خصوصاً عند مقارنتها بتجارب صحفيين عالميين كرسوا حياتهم ومهنتهم للدفاع عن حقوق الفئات الأكثر ضعفاً في مجتمعاتهم، سواء في الغرب أو الشرق، في بيئات أقل تعقيداً من تلك التي يواجهها الصحفي اليمني.
- أسس بناء الثقة والدفاع عن القضايا الجوهرية:
تتجلى ركائز ثقة الجمهور ببن لزرق في عدة عوامل مترابطة:
1. الانحياز الواضح لقضايا الشعب:
لم يكتفِ بن لزرق بنقل الخبر، بل تحول إلى منبر للدفاع عن المطالب اليومية للمواطنين. فقد جعل من منصته الإعلامية، "عدن الغد"، مساحةً لرفع الصوت عالياً بالشكاوى المتعلقة بارتفاع الأسعار، وندرة الخدمات الأساسية كالطاقة والماء والكهرباء، وتدني الخدمات الصحية والتعليمية، وانعدام فرص العمل. هذا الانحياز الصريح للمواطن العادي، في وقت تشتد فيه وطأة الأزمات، خلق شعوراً بأن هناك من يسمعه ويدافع عنه.
2. تحريك ملفات اقتصادية حساسة:
تميز بن لزرق بمتابعته الحثيثة والدقيقة للملف الاقتصادي، الذي يشغل بال كل بيت يمني. لعب دوراً محورياً في تسليط الضوء المستمر على قضية تدهور قيمة العملة الوطنية (الريال اليمني) وآثارها الكارثية على القوة الشرائية. لم يقتصر على الوصف، بل قدم تحليلات تفسيرية لسياسات الصرف وأسباب التضخم الجامح، وسعى إلى محاسبة المسؤولين وطرح بدائل، مما جعله مصدراً موثوقاً لفهم تعقيدات الأزمة الاقتصادية. تحولت مقالاته وتقاريره إلى مرجعية لفهم تداعيات التقلبات الاقتصادية على الحياة اليومية.
3. الجرأة في مواجهة الفساد والسلطة:
اتسم أسلوبه الصحفي بالشجاعة في كشف حالات الفساد المالي والإداري المزعومة، وتوجيه النقد اللاذع لتراخي أو تقصير المؤسسات الحكومية في أداء واجباتها تجاه المواطن. هذه الجرأة، رغم ما تحمله من مخاطر في بيئة معقدة مثل اليمن، عززت صورته كصوت حر لا يخشى قول الحق لومة لائم، مما أكسبه احتراماً واسعاً بين شرائح المجتمع التي تعاني من الإهمال والاستغلال.
4. الانتشار والتواصل الفعال:
استطاع موقع "عدن الغد" تحت قيادته أن يصل إلى شريحة واسعة من الجمهور، مستفيداً من طبيعة الإعلام الرقمي وسرعة انتشاره. هذا الانتشار، مقروناً بالمحتوى الذي يلامس الهم اليومي، خلق شعوراً بالقرب والتواصل بين الصحفي وجمهوره.
5. الالتزام بالصدقية والمهنية النسبية:
في بيئة إعلامية تشوبها الكثير من الشوائب والمبالغات والتسييس، سعى بن لزرق، رغم كل التحديات، إلى تقديم محتوى يعتمد على التحقق قدر الإمكان، مع التركيز على القصص الإنسانية والمشكلات الواقعية. هذا الالتزام نحو المهنية، وإن لم يكن كاملاً في ظروف الحرب وتعقيدات المشهد، ساهم في ترسيخ صورته كمصدر أكثر موثوقية مقارنة بغيره.
- فتحي بن لزرق في السياق العالمي:
مسار بن لزرق يُذَكِّرْنا بتقاليد الصحافة العالمية التي جعلت من الدفاع عن حقوق المواطنين البسطاء وفضح انتهاكات السلطة شعاراً لها. ففي بريطانيا، نجد صحفيين مثل بول ماسون الذي ركز على الآثار الاجتماعية والاقتصادية للعولمة والسياسات التقشفية على الطبقة العاملة والفئات الضعيفة. وفي فرنسا، يبرز اسم إدوي بلينيل مؤسس موقع "ميديا بارت"، الذي اشتهر بالتحقيقات الاستقصائية الصارمة التي تستهدف الفساد في أوساط النخبة السياسية والمالية الفرنسية، مدافعاً عن الشفافية ومصلحة المواطن العادي. أما في الولايات المتحدة، فتمتد هذه السلسلة من بوب وودوارد وكارل برنستاين اللذين كشفا فضيحة ووترغيت، إلى جلين غرينوالد الذي كشف مع إدوارد سنودن تجسس الوكالات الحكومية على المواطنين العاديين، ونعومي كلاين التي سلطت الضوء على الآثار المدمرة لسياسات الصدمة الاقتصادية على المجتمعات. والصحفي الكولومبي غيوليرمو كانو رئيس تحرير صحيفة إلإسبكتادور، الذي كشف مافيا المخدرات الكولومبية. وفي الفلبين، نجد الصحفية ماريا ريسا حائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2021، التي كرست حياتها لمكافحة التضليل الإعلامي وحماية حرية التعبير، ومراسلين مستقلين آخرين عملوا في ظروف قمعية لنقل الحقيقة إلى الجمهور، رغم المخاطر الجسيمة. هؤلاء، وغيرهم كثيرون، يشتركون مع بن لزرق في جوهر رسالتهم: إعطاء الصوت لمن لا صوت لهم، ومحاسبة القوي، والدفاع عن كرامة وحقوق الإنسان الأساسية في وجه التجاهل أو القمع. ما يميز تجربة بن لزرق هو ممارسة هذا الدور في بيئة من أقسى البيئات على الإطلاق – بيئة حرب ونزاع مسلح وانقسام سياسي حاد – حيث يزداد خطر المهنة وتتعقد مسؤولياتها.
- مقترحات لمكانته المستقبلية ومآلات جهوده
نظراً للدور المحوري الذي يلعبه بن لزرق والأثر الذي يحققه:
1. الاعتراف الرسمي والوطني: ينبغي على المؤسسات الرسمية في عدن والجنوب اليمني الاعتراف العلني بدوره كصحفي وطني ملتزم بقضايا الشعب. يمكن منحه جوائز تقديرية أو دعوته للمشاركة في منتديات حوارية حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية كخبير وممثل للرأي العام.
2. دور استشاري: يمكن الاستفادة من فهمه العميق للشأن العام والاقتصادي من خلال إشراكه بصورة استشارية غير رسمية في لجان تقصي الحقائق حول الفساد أو لجان مراجعة السياسات الاقتصادية المتعلقة بالأسعار ودعم العملة.
3. حماية وتعزيز الاستقلالية: الضمان الأهم هو توفير الحماية له ولطاقمه الصحفي لمواصلة عمله بحرية وأمان، والدفاع عن استقلالية موقع "عدن الغد" من أي ضغوط سياسية أو مالية قد تحرف مساره.
4. دعم دولي: تستحق تجربته الاهتمام الدولي. يمكن لمنظمات حرية الصحافة تقديم الدعم المعنوي والمادي والتدريبي، كما يمكن منحه زمالات صحفية دولية لإثراء خبرته وتمكينه من نقل قصة اليمن بشكل أوسع.
5. تطوير المؤسسة: دعم تطوير موقع "عدن الغد" ليكون مؤسسة إعلامية أكثر احترافية وقدرة تقنية، مع التركيز على التدريب المستمر للصحفيين الشباب على منهجية التحقيق والتحليل الاقتصادي والاجتماعي.
أما مآلات هذا الجهد المبذول فهي متعددة الاحتمالات:
- الاستدامة والتأثير المؤسسي:
قد يؤدي نجاح نموذجه إلى تحفيز ظهور صحفيين ومؤسسات إعلامية أخرى تتبنى ذات النهج القائم على خدمة المجتمع، مما يساهم في بناء تقاليد صحفية وطنية أكثر رسوخاً ومسؤولية.
- التأثير على السياسات:
قد ينجح الضغط الإعلامي المستمر الذي يقوده في دفع السلطات إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لمعالجة أزمة الأسعار أو دعم العملة، أو على الأقل تحسين الشفافية في التعامل مع هذه الملفات.
- التحديات والمخاطر:
لا يمكن إغفال المخاطر الجسيمة التي قد تواجهه، من مضايقات قانونية أو تهديدات أمنية أو حملات تشويه، خاصة عند لمس مصالح قوية. كما أن خطر الإرهاق أو الإحباط بسبب بطء التغيير واقعي في بيئة معقدة مثل اليمن.
- الرمزية:
بغض النظر عن النتائج المباشرة، يظل بن لزرق رمزاً للصحفي الملتزم بقضايا وطنه وشعبه في أصعب الظروف، مما يثري التجربة الصحفية اليمنية ويوفر نموذجاً يحتذى به.
إن الثقة التي حاز عليها فتحي بن لزرق من جمهوره في عدن واليمن هي شهادة حية على قوة الصحافة المتجذرة في هموم المجتمع. إنها ثقة نابعة من إدراك المواطن أن هذا الصوت الصحفي لا ينفصل عن صراعه اليومي من أجل لقمة العيش وكرامة الحياة. جهوده في تحريك قضايا الأسعار والعملة والفساد تجعله في مصاف أولئك الصحفيين العالميين الذين جعلوا من الدفاع عن البسطاء رسالة مقدسة. مستقبل تأثيره مرهون بقدرته على الحفاظ على استقلاليته وشجاعته، ودعم المجتمع المحلي والدولي له، ونجاحه في تحويل هذا التأثير الفردي إلى حركة صحفية ومجتمعية أوسع تساهم في بناء يمن أكثر استقراراً وعدالة. إنه نموذج يؤكد أن الصحافة، في جوهرها، مهما اختلفت الجغرافيا واشتدت الظروف، تظل سلاح الضعفاء وضمير المجتمع عندما تلتزم بالدفاع عن الحقيقة وحقوق الإنسان.