آخر تحديث :الجمعة-07 نوفمبر 2025-12:02ص

الهويّات البديلة في المنطقة: رحلة بحث عن الاستقرار

الأربعاء - 13 أغسطس 2025 - الساعة 07:47 م
فجر جمال السيد

بقلم: فجر جمال السيد
- ارشيف الكاتب


تبدو الهويّة في "شامنا ويمننا" في 2025، سؤالًا أكثر خطورة من ذي قبل. ليس لأنّ الناس اكتشفوا فجأةً أنّهم بلا انتماء، بل

لأنّهم وجدوا أنفسهم أمام فراغٍ سياسي وأخلاقي، سرعان ما يملؤه خطابُ "الهويّات البديلة". المنطقة اليوم في حالة نزاع

مزمن يفيض على الاقتصاد والمجتمع. حرب السودان منذ 2023 صنعت واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية المفتوحة في

العالم وحتى اليوم (حاجةٌ تمويلية بمليارات الدولارات، وملايين على شفير الجوع والمرض). وحرب غزة المستمرة منذ

أكتوبر 2023 حوّلت الشريط الساحلي إلى كارثة إنسانية مستدامة، تُحدِث موجاتٍ من السّخط والاستقطاب عبر المنطقة

والعالم. هذه الحروب لا تُعيد تشكيل الحدود فقط؛ بل تعيد ترتيب أولويات الأفراد: النجاة قبل الهوية، والخبز قبل الخطاب.

اليمن

في اليمن، يبدو الصراع على "تعريف اليمني" أشد من أيّ وقت مضى. شمالٌ تحت سلطة الحوثي بهويّة دينية-مذهبية مغلّفة

بخطاب مقاومةٍ إقليمية، وجنوبٌ يرفع راية "الهوية الجنوبية" ويسعى للانفصال. في الوسط، قوى سياسية وقبلية تُعيد

تموضعها بين هذين المشروعين بينما الاقتصاد ينهار والمجتمع يتفتت. هذه الانقسامات ليست مجرّد شعارات؛ بل هي بنية

حكمٍ موازية، تتغذّى من شعور كلّ طرف بأنّ "اليمن الكبير" فكرة رومانسية لا تلبي مصالحه الآنية. ومع ذلك، تبقى الحقيقة

أنّ هذا التشظّي يجعل من أيّة نهضة اقتصاديّة، أو سيادة سياسيّة، أمرًا بعيد المنال.

الهويّة كأداة صراع

من سوريا إلى اليمن، تتشابه القصة: في لحظة سقوط أو تحوّل، لا يكون السؤال عن "حقوق المواطنة" أو عن "عقد اجتماعي

جديد"، بل عن أيّ علمٍ نرفع وأيّ اسمٍ نكتب على بطاقاتنا؟.

الهويّة البديلة قد تكون فرصةً لإحياء مكوّن ثقافي منسي، لكنها أيضًا أداة تقسيم إذا حُوّلت إلى مشروع سياسي منعزل عن

محيطه. في سوريا ومنذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد برزت محاولات إحياء هويّات بديلة بشكل حاد. صفحات إعلامية، و

مبادرات ثقافية، وخطابات سياسيّة تستحضر هويات بديلة. منذ اللحظة الأولى بدا خطاب استحضار تاريخ بني أمية في

دمشق، محاولةً لتأطير الحاضر في إطار "استعادة الإرث الأموي" كمرحلة ذهبية، وهو خطاب يجد صدى لدى شريحة ترى

في القومية العربية الحالية تشويهًا لذلك الإرث، خاصة لدى المكوّن السني. بالمقابل تتسابق مكونات المجتمع السوري لخلق

مظلّات حمايّة إثنية، أو طائفيّة، من الهويّة الكرديّة إلى الدرزية أو العلويّة التي تغذي خرائط تنقض تقسيمات سايكس بيكو.

هذه الهويات، تحمل في جوانبها إرثًا غنيًا، إلا أنها تتحول في لحظة الانهيار السياسي إلى خطوط تماس جديدة، تقسّم المجتمع

على أسس الخوف والذاكرة الانتقائيّة، بدل أن تبني أرضية مشتركة للمستقبل.

تاريخ من الهويّات القاتلة

في اليمن، المشهد لا يقل تعقيداً، و صراع الهوية ليس وليد الحرب الأخيرة، بل هو امتداد لمسار تاريخي طويل من الانقسام

الجغرافي والسياسي. فمنذ قيام الجمهورية في الشمال في ستينيات القرن الماضي، وتأسيس جمهورية اليمن الديمقراطية

الشعبية في الجنوب بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1967، ظل الانقسام بين الشمال والجنوب سابقًا، قائمًا تحت السطح حتى

بعد الوحدة عام 1990.

الحرب الأهلية في 1994 أعادت إنتاج هذا الانقسام، لكنها هذه المرة أعطته طابعًا سياسيًا أكثر وضوحًا: سلطة مركزية في

صنعاء تهيمن عليها نخبة شمالية، في مقابل شعور جنوبي بالتهميش والإقصاء. ومع اندلاع حرب 2015، انفجرت الهويّات

المكبوتة إلى مشروعات سياسية وعسكرية قائمة بذاتها: الحوثيون في الشمال بخطاب ديني-مذهبي يربطهم بالمحور الإيراني،

والمجلس الانتقالي الجنوبي برؤية انفصالية مدعومة من الإمارات، وأصوات في حضرموت تطالب بالاعتراف بخصوصيتها

التاريخية والجغرافية بل وبحقها في تقرير المصير. هذا المشهد لا يقتصر على الانقسام الجغرافي والمذهبي، بل يتقاطع مع

صراعات قبلية ومناطقية تعود جذورها إلى قرون، ويعقّده التدخل الإقليمي الذي يعيد تشكيل التحالفات الداخلية وفق مصالحه.

فـ"الهوية" هنا ليست مجرد انتماء ثقافي، بل ورقة تفاوضية في لعبة إقليمية كبرى: توظف الخطابات المحلية لتعزيز نفوذها،

ما يجعل أي مشروع وطني جامع رهينةً لهذه التوازنات الخارجيّة. تتجدد محاولات تكريس "الهوية الجنوبية" في مواجهة

"الهوية الزيدية" للشمال، بينما تتراجع فكرة اليمن الواحد إلى الهامش. وهنا كما في سوريا، تتحول الهوية البديلة من إطار

ثقافي إلى مشروع سياسي مسلّح، يضع الناس أمام خيارين: الانتماء الضيق أو العزلة الكاملة.

الهوية ليست طبقة واحدة، بل نسيج من طبقات متراكبة: الدين، و اللغة، و الانتماء الجغرافي، و التجربة التاريخية، وحتى

الذكريات الشخصية. لكن الخطر يبدأ حين تُختَزل هذه الطبقات المتعددة في عنصر واحد يُقدَّم باعتباره "الجوهر" و"الحقيقة

المطلقة" للإنسان أو الجماعة. عندها تتحول الهوية من جسر للتواصل إلى سلاح للتقسيم، ومن فضاء للتنوع إلى خندق

للحرب.

في سوريا، ومع سقوط النظام، برزت موجة من "الهويات البديلة" التي تحاول إعادة تعريف الانتماء خارج إطار القومية

العربية التي استخدمها النظام غطاءً للاستبداد. أصوات تتحدث عن الهوية الفينيقية، أو الأمويّة، أو الكردية الخالصة، أو

الهوية الدينية والطائفية: الدروز، العلويون، المسيحيون، السنّة، وكلها تستحضر إرثًا تاريخيًا، لكنها في كثير من الأحيان تُقدَّم

كبدائل إقصائية لا تتسع للآخرين. هنا تتحقق نبوءة أمين معلوف: حين يتحول مكوّن واحد من الهوية إلى لافتة سياسية مغلقة،

يصبح "قاتلًا" بالمعنى المجازي، لأنه يمهّد لانفجارات جديدة ويقوّض أيّة فرصة لعقد اجتماعي جامع.

الحرب

الحرب لا تفكّك الدولة فقط، بل تفكّك أيضا الهوية الوطنية إلى مشاريع متنافسة: ولو أن الانتماءات ليست باطلة في جوهرها،

لكن الخطر يكمن في تحويلها إلى حدود صلبة تفصل بين الناس، وتُسقط فكرة الوطن الواحد.

إذا عدنا إلى مقارنة السياقين السوري واليمني، فإن سوريا ما زالت تبحث عن صيغة "اليوم التالي" وسط فراغ سياسي وأمني،

بينما اليمن يعيش "اليوم التالي" منذ سنوات، لكنه يومٌ يتكرر بلا أفق، لأن الصراع الهويّاتيّ أصبح جزءًا من بنية الحكم

والتحالفات الإقليمية. وفي الحالتين، ما لم تُصَغ الهويات، مهما كانت دينية أو قومية أو مناطقية، ضمن إطار وطني واسع،

ستتحول إلى وقود لصراعات لا تنتهي.

عمليًا: لا خلاصَ عبر قومياتٍ تتناحر على أطلالٍ، ولا عبر انبهارٍ ساذج بسوقٍ عالميةٍ لا تحمي الضعفاء. الخلاص في

سياسات تشاركيّة واقعية: تكامل إقليمي، و ممرات تجارة آمنة، تعليم ومهارات رقمية، وحوكمة. لن يُنتج الانسلاخُ عن “هويةٍ”

أو الارتماءُ في أخرى علاجًا للعطب. الهوية، لا تعود مسألةَ سِجالٍ وجودي بقدر ما تصير إطارًا لمواطنةٍ تحترم التنوّع

وتضبطه بقوانين عادلة. الامتحان الحقيقي اليوم ليس في “أيّ هوية نختار”، بل في "أيّ"عقدٍ اجتماعي نُبرم": عقدٌ يضمن

حريةً وعدالةً ومساءلةً، ويرى في الإرث المشترك موردًا اقتصاديًا ومعنويًا، لا رفًّا للحنين. ذلك وحده ما يحصّن المجتمعات

في وجه حروبٍ تتبدّل أشكالها، ومنصاتٍ تتبدّل خوارزمياتها، واقتصادٍ عالميٍّ لا ينتظر المتردّدين.