آخر تحديث :الثلاثاء-19 أغسطس 2025-02:21م

لا قيام لدولة تُهين شعبها وترفع من شأن ناهبيها

السبت - 02 أغسطس 2025 - الساعة 07:18 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


في بلدٍ مزّقته النزاعات وتقاذفته المصالح، لا يمكن أن يبقى الصمت خيارًا أخلاقيًا، ولا الحياد موقفًا مسؤولًا. فحين تُسلَب أقوات الناس وتُنهب جيوب الفقراء علنًا، ويتحول العجز الرسمي إلى غطاء لنهب منظم، يصبح من الواجب أن نقف في وجه هذه الفوضى الاقتصادية المقنّعة، التي سُوّغت بحجج واهية وأعذارٍ مهترئة، لا تليق إلا بمن امتهنوا خيانة الأمانة، انحازوا لمصالح رأس المال الجارف، على حساب فئة واسعة من المواطنين المنهكين في كفاحهم اليومي لتأمين معيشتهم.

لقد عاشت البلاد سنواتٍ من الانهيار الاقتصادي والانفلات النقدي، وكان المواطن هو الخاسر الأكبر، يُنهك كل يوم في معركة غير متكافئة بين احتياجاته الأساسية وبين أسعارٍ تُصاغ في الغرف المغلقة وفق مصالح نافذين ومضاربين، إن العلاقة التي تربطهم بالوطن ليست وجدانية ولا أخلاقية، بل محض علاقة استثمار ونهب للثروة وموطنًا للغنيمة.

لم يكن ما جرى خطأً اقتصاديًا عابرًا أو سوء تقدير تقني، بل جريمة مكتملة الأركان، شارك فيها من صمتوا ومن برّروا ومن تواطؤوا، ومن جلسوا على كراسي القرار يتحدثون عن الوطنية وهم يرتبون صفقاتهم في الظلام.

المواطن الذي يخرج من منزله بحثًا عن القوت، لم يكن يعلَم أن ما يدفعه يوميًا من ثمن للسلع والخدمات، كان يحتوي على زيادات مضاعفة لأكثر من نصف القيمة لا تستند إلى منطق السوق ولا إلى قوانين العرض والطلب، بل إلى جشع ممنهج وتغوّل مافيوي، باركته سلطة الأمر الواقع بغيابها المتعمد، وأجازته الحكومة بصمتها المشبوه. اختلاس أموال الشعب بالمكشوف لم يعد يحتاج إلى ملفات سرية أو وثائق مسربة؛ إنه يتم أمام الجميع، تحت مرأى ومسمع المؤسسات المعنية التي اكتفت بلعب دور المتفرّج أو الشريك المستتر.

ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة معيشية، بل كارثة أخلاقية تفضح انحدار منظومة الحكم وفساد أركانها. إنها نتيجة مباشرة لعقود من التراخي، والارتهان، وتمكين قوى النفوذ من مقدرات الناس، باسم شعارات فارغة لا تصمد أمام معاناة الأسر البسيطة، التي تحمّلت فوق طاقتها في سبيل البقاء على قيد الحياة. لا يمكن أن تُغتفر جريمة تحميل المواطن أعباء إضافية لمصلحة حفنة من المضاربين وتُرك الحبل على الغارب لتجار الأزمات.

إن المطلوب اليوم ليس فقط مساءلة المتورطين، بل فتح نقاش وطني صريح حول طبيعة السلطة القائمة، وجدوى استمرارها، وقدرتها على إدارة شؤون الناس، لا على إدارة مصالحها الضيقة. لقد أثبتت السنوات الماضية أن هذه البُنى السلطوية لم تأتِ لحماية الناس، بل لتأمين مصالحها ومصالح النخب الداعمة لها وتتغذى على ضعف الدولة وتفكك القانون. لم يعد مجديًا الحديث عن إصلاحات شكلية داخل منظومة أثبتت فشلها وانكشافها الأخلاقي.

ولعلّ أولى خطوات الخروج من هذه الدائرة الخانقة، هي استعادة الوعي الشعبي، وكسر حلقة الخوف واليأس، وإعادة بناء الثقة بالنفس الجمعية. لا بد من تشكيل لجان رقابة أهلية مستقلة، ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة تتابع تفاصيل الأسعار، وتفضح كل ممارسات النهب، وتقود حملات ضغط منظمة لفرض قواعد تسعير عادلة تُراعى فيها مصلحة المواطن قبل مصالح التجار المتنفذين. كما ينبغي إعادة النظر في منظومة الضرائب والجمارك والرقابة على الاستيراد، بما يضمن شفافية العمليات وتحديد هوامش ربح واقعية.

إلى جانب ذلك، يجب التفكير بجدية في مشروع اقتصادي بديل، يقوم على تشجيع الإنتاج المحلي وتقليل التبعية للسلع المستوردة، وتحرير السوق من الاحتكار، وإرساء إطار قانوني واقتصادي قادر على حماية المستهلك لا المتربص به. أما صمت النخب، فهو شكل ناعم من أشكال التأييد الضمني للمفسدين.

لن يُكتب لهذه الأمة خلاص إن لم تنتفض على واقعها، وتكسر طوق التبعية، وترفع صوتها عاليًا ضد كل أشكال الابتزاز المعيشي. فالشعب الذي يرضى أن يُستنزف بهذه الطريقة، هو شعب مهدد بفقدان ما تبقى له من كرامة وسيادة. والحكومات التي تفشل في حماية شعبها من النهب الممنهج، لا تستحق سوى الإزاحة عبر أدوات مدنية وسلمية تحترم الإرادة العامة وتعيد للشعب دوره الحقيقي في تقرير مصيره كبقية الأمم.