الإعلام في جوهره فكرة عظيمة وكان يُقال قديماً إن الإعلام مرآة المجتمع وإن الصحفي هو ضمير الأمة وإن الكلمة أقوى من الرصاصة كانت الكلمة تُبنى على الصدق،وتُرفع بكرامة وتُوجَّه للإنارة لا للإثارة،فالإعلام صوت الناس حين يُخرَس صوتهم، وعينهم حين يُحجب عنهم المشهد، وعقلهم حين يُراد لهم أن يُضللوا لكنه أيضاً أداة، ومتى ما صارت الأداة في يد من لا يملك الأخلاق، فإنها تتحوّل إلى سلاحٍ خطير، لا يقلّ فتكًا عن السلاح الناري.ومن أكثر النماذج وضوحًا على تشوّه الإعلام،هو ما يحدث في بلادنا بعد أن تغيّرت وظيفتة من ناقل للحقيقة إلى صانع للوهم،ومن حارس للوعي إلى تاجر بالرأي، ومن سلطة رابعة تُراقب إلى أداة في يد من يملك المال أو السلاح.وليس هذا فحسب بل إن معظم وسائل إعلامنا والمنصات الإعلامية تحولت للتمجيد،للتطبيل للتخوين، للتشويه فلا منصة مستقلة فعلًا، إلا في حالات نادرة تُصارع للبقاء.وقلّما تجد وسيلة إعلام تُسائل السلطة، أو تكشف الحقيقة دون حسابات مسبقة. الأكثرية باتت تعمل تحت مظلة المال السياسي، أو التبعية الأيديولوجية، أو الخوف من الحجب والمنع والاعتقال.
والمتابع لوسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي سيرى أنه ومنذ بداية الحرب في بلادنا لم تكن هذه الوسائل يوماً مساحة للنقاش بل ساحة للتصفية والأقلام التي كتبت بصدق كُسرت، والكاميرات التي حاولت أن تفتح عينها في الظلام طُمِسَت، والمذيعون الذين تنفسوا خارج نصوص السياسيين طُرِدوا، أو وُصِموا، أو صمتوا إلى الأبد. ولهذا لم يعد الإعلام يخجل وأصبح يمارس الكذب العلني والتزوير المهني، والتطبيل المتقن حتى صار أكثر من نصف المواطنين يحفظون عناوين الكذب عن ظهر قلب الوضع الاقتصادي مستقر نحن بخير نحن لسنا بخير نحن نموت، والميكروفونات تصرخ كل شيء تمام ولذلك، لا غرابة أن ترى وسائل الإعلام أغلقت ملفات الفساد بموسيقى ختامية حزينة وأصبح المواطن يطفئ التلفاز، وينزوي في صمته، لأنه تعب من الكذب، وتعب من رؤية اسمه يُستخدم في كل نشرات التزوير الشعب يُؤيد الشعب يرفض الشعب يبايع الشعب على العهد بينما هذا الشعب لم يُسأل يومًا، ولا حتّى في خياله.للأسف الشديد أصبح الاعلام مصنعًا كبيرًا لإعادة تدوير الأكاذيب يخلط الحقيقة بالخيال وتخلى عن رسالته في إنارة الطريق للناس ولم يعد يبحث عن العدالة،بل عن التبرير. لا يسند المواطن، بل يهاجمه. وحين يتحدث المواطن، لا يُنصت إليه أحد، بل يُتهم بالتحريض، ويُحاكم في محكمة النشرات، ويُصدر عليه حكم بالإعدام المهني.
والحقيقة المرة لا توجد صحافة حرة في بلادنا بل صحفٌ حرة في تزييف الحقيقة لا توجد شاشات تُنير العتمة، بل تُطفئ كل شمعة نور تحاول أن تُرى. هنا، الإعلام لا يطرح الأسئلة بل يُوزع الإجابات الجاهزة وهنا لا تقع المسؤولية على الصحفي وحده، وإن كان بعضهم باع ضميره. المسؤولية تبدأ من الأنظمة التي ترى الإعلام أداة لتلميع صورتها، لا لمساءلتها. ثم الأحزاب والجماعات التي تُموّل وسائل إعلام لتنشر خطابها وتُحارب خصومها. ثم الشركات التي ترى الإعلام سوقًا للربح لا منصة للحقيقة ولكن المسؤول الأكبر،هو غياب الأخلاقيات المهنية الإعلامي الذي يقبل أن يكون بوقًا، لا يستحق أن يُسمى صحفيًا. ومن ينشر خبرًا كاذبًا يعلم أنه كاذب، لا يُمارس حرية التعبير، بل يقتل الحقيقة عمدًا.
وأخيراً ما الذي جعل وسائل الإعلام تتحوّل من ضوء إلى دخان؟وكيف صار المواطن متلقيًا مُشوّشًا بدل أن يكون مُستنيرًا؟ولماذا فقدت الكلمة هيبتها وارتبك الصدق في زحام الأكاذيب؟وماذا تبقّى من هذه الصورة النبيلة للإعلام؟هل لا يزال الإعلام مرآةً تعكس الواقع،أم أنه أصبح مرآة مشوّهة، لا تُظهر إلا ما يريد المُتحكّمون أن يُرى، وتُخفي ما يجب أن يُقال؟فأي إعلام هذا الذي يرى الفساد ثم يصوغه في تقارير تمجيدية؟ أي إعلام هذا الذي لا يُغضب السلطة؟ الإعلام الذي لا يُغضب، لا يُفيد.والإعلام الذي لا يُخالف، لا يُصلح.الإعلام يجب أن يكون صوت الناس، لا صوت السلطة. روح الحقيقة، لا ظل الكذبة. ولكن الحقيقية في ظل واقعنا الذي نعيشه صار الإعلام مرآة، نعم، لكنه مرآة مكسورة، لا تعكس صورة كاملة، بل أجزاء مبتورة، مختارة، مزينة حينًا ومشوّهة حينًا آخر، بحسب هوى الممول، وميزان المصالح.