أكملت دراسة البكالوريوس في كلية التربية جامعة عدن وتعينت مدرساً في أحد ثانويات ريف محافظة أبين وتحديداً في ثانوية الفاروق مديرية الوضيع مكثت فيها ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى مدينة جعار مدرساً في أحد ثانوياتها وكان طموحي أن اتعين معيداً في جامعة عدن واواصل دراستي العليا (الماجستير والدكتوراه) وأكون استاذا جامعيا مرموقا.
كان والدي رحمه الله رحمة الأبرار هو سندي وكان دائماً يشجعني على مواصلة دراستي العليا بل كان دائماً يناديني دكتور غسان حتى صدقت نفسي بأنني دكتور فعلاً وأنا فقط عندي بكالوريوس !!!
قدمت اوراقي كي التحق ببرنامج الماجستير في كلية التربية عدن فقبلت بعد امتحان قبول ومقابلة شخصية، وكان الرسوم الدراسية تشكل عائق امامي لكوني لا املك إلا راتبي الفتات الذي استلمه من مكتب التربية والتعليم م/ أبين وأنا متزوج ولدي أطفال، وكنت متردد في دفع الرسوم حتى تم اخراجي من قاعة الدراسة وانذاري بالفصل مالم اسدد رسوم الفصل الأول قبل الامتحانات الفصلية باسبوعين، عدت إلى منزلي خائب ومنكسر وحزين !!!
لاحظ والدي رحمه الله نظرة الانكسار والحزن في وجهي، فتحدث معي وقال مالك حزين تقول أحد قتل عليك قتيل، فشكيت لوالدي أنهم سيحرموني من دخول الامتحانات بعد أسبوعين بسبب عدم دفع الرسوم، وقلت لوالدي لماذا نحن أبناء أبين لا توجد لدينا جمعيات خيرية تساعد الطلاب في دفع الرسوم والسكن مثل اخواننا في يافع أو شبوة أو حضرموت !!!؟؟؟
تصدق يا والدي أن زميلي اليافعي سددت له الرسوم جمعية يافع الخيرية وأيضا يدعموه بمبلغ رمزي شهرياً ووفروا له سكن طلابي وهو معلم يستلم راتب من التربية ونحن يحاربونا أصحابنا في مواصلة تعليمنا بل كثفوا علينا الدوام والزمونا بالحضور يومين في الأسبوع للتدريس في مدينة جعار محافظة أبين ويخصموا غياب علينا إذا غبنا لظرف خاص أو بعد المسافة من البريقة إلى جعار !!!
هون عليه والدي وقال لا تيأس غداً أن شاء الله سأعطيك رسوم الفصل الأول من راتبي ورفضت ذلك وقلت لوالدي راتبك يالله يكفي لأسرتك الكبيرة والمفروض أنا اساعدك واخفف عليك قليلاً ولا أشكل عليك عبء اضافي، والح علينا والدي رحمه الله وقال رد علينا المبلغ عندما تكون دكتور ...
أعطاني والدي رحمه الله المبلغ وقال اريدك اليوم تأتي بسندات الرسوم كي أحتفظ بهم ولا تتردد ابدا، فشكرت والدي وقبلت على رأسه وكنت أريد أقبل على ركبته ورفع رأسي وقال يا دكتور غسان لا تنحني إلا لربك وابتسم في وجهي فتبسمت له وشكرته من أعماق قلبي.
دخلت الإمتحانات واجتزتها بنجاح باهر ثم بدأ الفصل الثاني وبدأت معاناتي في دفع رسوم الفصل الثاني فقدمت على قرض من بنك التسليف الزراعي وسددت رسوم الفصل الثاني وإعداد رسالة الماجستير وخصم ثلث من راتبي وتقشفت أنا وأولادي ومرت علينا أشهر عجاف وصبرنا حتى نلت درجة الماجستير بامتياز، ثم انتقلت من مكتب التربية والتعليم م/ أبين إلى جامعة عدن (خفض وإضافة) وخفض راتبي وتبقى الأساسي وكنت استلم راتب 36 الف ريال فقط بما يعادل 150 دولار في ذاك الوقت !!!
عندما ذهبت إلى المحاسب كي استلم راتب أول شهر من جامعة عدن وجدت مجموعة ومن الزملاء الدكاتره يستلمون راتبهم فشعرت بحرج كبير لأن الدكتور الجامعي حينها كان يستلم مبلغ كبير بما يعادل 1150 دولار وأنا أستلم مبلغ حقير يعادل 150 دولار فقط، وكنت اجلس إلى آخر وأحد كي لا يرى راتبي الفتات أحد من الزملاء الدكاتره فيشمت بي، فأخذت عهد على نفسي بأن أحصل على الدكتوراه قريبا واحقق حلم والدي رحمه الله وأيضاً كي يرتفع راتبي ...
بعد ستة أشهر جاءت الإضافة إلى راتبي وارتفع إلى 64 الف ريال تحسنت حالتي المادية قليلاً، فالتحقت ببرنامج الدكتوراه في جامعة عدن وكانت الدراسة مجاناً لاني عضو هيئة تدريسية مساعدة في الجامعة ...
عندما كنت أصعد باص كليتنا المتوجه من عدن الى زنجبار والعكس كنت أجلس في مؤخرة الباص وكنت اسمع من الزملاء الدكاترة بأن أحدهم حصل على مستحقات الدكتوراه واشترى شقة في إنماء وآخر يقول أشترى سيارة وكانوا الزملاء الدكاتره يوقفون الباص في النفق الأخضر في مدينة الكود عند أصحاب المانجا والموز والعنبا ويشترون وأنا لا يوجد لدي ريال إلا حق المواصلات من الشيخ عثمان إلى البريقة وأقول في نفسي قربت يا غسان إن شاء الله أحصل على الدكتوراه وأستلم مثلهم 1150 دولار واكمل بناء منزلي واشتري سيارة فوكسي وأشتري مانجا وعنبا وموز مع الزملاء الدكاتره واشاركهم النقاش بكل حرية...
أكملت دراسة الدكتوراه وناقشت الأطروحة وحضر والدي النقاش وكان فرحان أكثر مني وحضنني وقال اليوم رفعت رأس والدك عالياً، كم كنت منتظر هذا اليوم بفارغ الصبر وها نحن نحتفل به أشكرك ولدي الدكتور غسان فقبلت على رأسه وقلت له لولا الله ثم أنتم والدي العزيز كنت لن أستطيع احقق حلم حياتي...
وبعد حصولي على الدكتوراه بإمتياز قال لي والدي الآن ساقول لك بروفيسور غسان وأنا متأكد انك ستحصل عليها قريباً إن شاء الله، فوعدت والدي رحمه الله أنني سابذل قصارى جهدي كي أحصل على هذا اللقب العلمي الرفيع وهو أرفع لقب علمي يحصل عليه الأستاذ الجامعي...
دخلت في سباق مع الزمن كي أحصل على تسوية راتبي الدكتوراه وكانت هناك إجراءات بيروقراطية عقيمة خضناها وبعد جهد جهيد حصلت على تسوية راتبي نهاية عام 2018م وتنفست الصعداء وكنت اسدد الديون المتراكمة وبعدها هبطت العملة هبوطاً مدويا وبدل أن استلم راتب ما يعادل 1150 دولار واحقق أحلامي هبط راتب الدكتور الجامعي إلى 100دولار فقط وهو الراتب الذي كنت استحي منه عندما انتقلت إلى الجامعة فعدت إلى مربع الصفر عجبي!!!
كتبت ثلاثة أبحاث علمية وحكمتها وحصلت على اللقب العلمي أستاذ مشارك (مساعد بروفيسور) بعد خمس سنوات من حصولي على درجة الدكتوراه، حالياً اكتب أبحاث علمية وإن شاء الله بعد سنتين سأحصل على لقب أستاذ (بروفيسور) واحقق حلم والدي رحمه الله رحمة الأبرار وغفر له واسكنه فسيح جناته، ولكن راتب البروفيسور في الجامعة أقل من 100 دولار وقابل للنقصان بسبب هبوط العملة عجبي!!!
*د.غسان ناصر عبادي*