قبل أيام كنت في زيارة إلى منطقة القبيطة، في إحدى ضواحي محافظة لحج، وفي لحظة توقفنا بجانب إحدى البقالات اقترب منا رجل لا يبدو عليه أنه متسول كان يرتدي ثوبًا أبيض نظيفًا يضع على رأسه عمامة تقليدية، وتحيط وجهه لحية مصبوغة بالحناء، كان يتكئ على عصا وفي يده الأخرى كيس دعاية بلاستيكي، اقترب من نافذة السيارة وقال بصوت خافت: "هل ممكن أن تعطوني قيمة دبة ماء؟"، ثم استدرك سريعًا وكأنه يخشى أن يُساء فهمه وأضاف: "أنا معلم قرآن كريم منذ ٤٥ سنة لكننا لم نستلم رواتب منذ شهور".
هذه الحادثة العابرة ليست استثناءً في اليمن اليوم بل حالة لها مئات الأشباه بالآلاف من مثلها وأكثر، وهذه الحالات هي خلاصة الواقع المتردي الذي وصلت إليه البلاد بعد سنوات من الحرب والتدهور والتجاهل الرسمي للمواطن وكرامته، لكن المؤسف في الأمر أن يتحول المعلم إلى متسول وهذه ليست فقط انتكاسة اجتماعية بل إشارة واضحة إلى حجم الانهيار القيمي والمؤسسي وإلى إهمال مقصود للتعليم والمعلم الذي يعد حجر الأساس لأي نهضة واعتباره في آخر أهتمامات السلطة الحاكمة.
لقد أصبح المعلم الذي يُفترض أن يكون حارس المعرفة شخصًا مهدور الكرامة مسلوب الحقوق يُنظر إليه اليوم باعتباره عبئًا بدلاً من كونه قيمة وطنية ومهنية.
يبلغ راتب المعلم اليوم في أحسن الأحوال نحو ٣٥ دولارًا شهريًا وبالمقابل يتقاضى أصغر مسؤول في الوزارة مبلغاً لايقل عن ال5000 آلاف دولار ، عوضا عن الوزراء والوكلاء والمسؤولون في هرم السلطة والذين يتقاضون أرقامًا أكبر من ذلك فضلًا عن الامتيازات الأخرى. لا يتعلق الأمر هنا بمسألة فروقات طبيعية في السلم الإداري، بل بفجوة فادحة في الرؤية: حيث تُكرَّس الموارد لخدمة القلة بينما يُترك المعلم وهو أساس التنمية يواجه مصيره منفردًا، مشردًا بين البسطات والشوارع والاضطراب النفسي.
في واقعة مؤلمة أخرى عندما ذهب وزير التربية في عدن لمقابلة مدير الأمن بغرض مناقشة التعاون والعمل المشترك ولا يمكن تفسير هذا السلوك إلا باعتباره نموذجًا واضحًا لإدارة البلاد بعقلية أمنية بوليسية لا سياسية حيث أصبح أمن يُستدعى لقمع الرأي وإصمات الأفواه لا لحماية الحقوق، بينما يغيب الحل الجذري وتغيب معه الدولة كمفهوم خدماتي ومؤسسي لم يذهب الوزير للقاء المعلمين لبحث سبل تحسين وضعهم المعيشي أو رفع ميزانية التعليم بل اختار الطريق الأسرع لتجاوز الأزمة: إخماد الصوت لا معالجته.
وهنا تبدو سياسة التجهيل والتجويع متعمدة أو على الأقل تواطؤا إذ كيف يمكن تفسير استمرار تجاهل التعليم والمعلمين على هذا النحو في بلد يشهد انهيارًا اقتصاديًا وأمنيًا وأخلاقيًا؟ التجهيل وسيلة للسيطرة والوعي عدو لكل من يحكم بلا مشروع ولذلك فإن ضرب التعليم في عمقه هو نوع من الضمان السياسي لمن يريد أن يبقى طويلًا على رأس سلطة بدون مساءلة.
لا يمكن فصل معاناة المعلم عن السياق العام لانهيار الدولة، اقتصاد هشّ، فساد إداري، انقسام سياسي، وتجريف للقطاعات الخدمية وما لم يتم النظر إلى هذه المعاناة كجزء من أزمة وطنية شاملة فإن جيلًا كاملًا سيتخرج من المدارس وهو غير مؤهل لا معرفيًا ولا إنسانيًا، وستتحول المدارس إلى مساحات خاوية بلا طلاب أو إلى مشاريع ربحية تجارية كما يحدث في المدارس الخاصة التي تنمو على حساب المدارس الحكومية.
نحن بحاجة إلى لحظة مراجعة وطنية لحظة يعاد فيها الاعتبار للمعلم كمحور أساسي في عملية البناء نحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة للعملية التعليمية تبدأ من ضمان الرواتب والحقوق وتمر بتطوير المناهج وتنتهي بإعادة تفعيل المدارس الحكومية كمؤسسات حيوية في خدمة المجتمع وليس كأماكن منسية مهجورة ، نحتاج أيضًا إلى ضبط الانفلات الذي يسمح بانتشار المدارس الأهلية بشكل عشوائي وتحويل التعليم إلى سلعة لمن يملك المال فقط ، بينما يُترك أبناء الفقراء في الظلام.
إلى متى سنبقى نتغافل عما يحدث؟ إلى متى سنستمر في تصدير خطابات النهوض بينما يُدفن المعلم حيًا بين ركام الإهمال و أعباء الحياة؟ اليمن لا يحتاج فقط إلى هدنة توقف القتال بل إلى مصالحة مع العقل ومع الإنسان لا سلام دون تعليم، ولا تعليم دون معلم يعيش بكرامة ، آن الأوان أن نعترف: الكارثة ليست فقط في الحرب بل في صمتنا على هذا الخراب المتواصل.