بالأمس وجّه رئيس مجلس الوزراء الأستاذ سالم بن بريك، بإعداد خطة زمنية واقعية وقابلة للتنفيذ لإعادة تشغيل مصافي عدن، في خطوة أعادت تسليط الضوء على أحد أكثر الملفات تعقيداً وحساسية في المشهد اليمني سياسياً وإقتصادياً في آن واحد ...
إذ لا يمكن التعامل مع هذا الملف بوصفه مجرد إجراء تقني أو خطوة إصلاحية ذات طابع إقتصادي، بل هو في جوهره إنعكاس صريح لصراع الإرادات داخل الدولة، وتقاطع مباشر مع معادلات السيادة والإستقرار ، فالمصافي بما تمثله من أهمية إستراتيجية تظل رهينة شبكة معقدة من المصالح المحلية والدولية، حيث تتداخل حسابات القوى النافذة بما يُعرف بـ"الدولة العميقة"، مع توجهات الحكومة الرسمية، وتوازنات الدعم الخارجي.
وعليه، فإن إعادة تشغيل المصافي ليست قراراً إدارياً محضاً، بل أشبه ما تكون بعملية تفاوض متعددة الأطراف، تتطلب توافقات دقيقة وتنازلات محسوبة. فهي إختبار لمدى قدرة الحكومة على كسر الجمود السياسي وتحريك ملفات إقتصادية راكدة، دون أن تصطدم بجدران النفوذ المتكلّس الذي طالما أعاق أي تحوّل حقيقي في المشهد ..
وعلى الرغم من النظرة التفاؤلية التي قد يحملها البعض تجاه هذه الخطوة بإعتبارها بوابة لإنفراج إقتصادي مرتقب، إلا أنها في حقيقتها مرآة تعكس توازنات القوى على الأرض، وميدان تنافس خفي بين أطراف تسعى كل منها لإحتكار مكاسب هذا القطاع الحيوي ، ومن دون تفكيك البنية العميقة للمصالح المترابطة حوله، فإن أي حديث عن إصلاح إقتصادي سيكون أقرب إلى الطوباوية السياسية منه إلى الواقعية التنفيذية.
أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فيبقى السؤال الأهم : هل حظي هذا التوجه بدعم من الدول الراعية للعملية السياسية؟ وهل يشكّل ذلك جزءاً من تفاهمات أوسع تعكس إعادة ترتيب الأولويات، أم أنه مجرد إختبار لقدرة الحكومة على الإنجاز ضمن بيئة سياسية لا تزال هشة ومفتوحة على كافة الإحتمالات؟
في الخلاصة، يثبت هذا الملف من جديد أن الأزمة الإقتصادية في اليمن لا يمكن فصلها عن عمق الأزمة السياسية، وأن أي معالجة حقيقية تبدأ من تفكيك بنية النفوذ، وإعادة تعريف مراكز القرار، محلياً ودولياً، بما يضمن تحصين القرار السيادي وتحريره من قبضة المصالح المتصارعة.
إن ما يدور حول مصافي عدن ليس مجرد جدل حول منشأة إقتصادية، بل هو مرآة مكشوفة لحالة الدولة ومأزق القرار فيها، ففي كل مرة يُفتح هذا الملف، تتجلى الحقيقة المؤلمة: أن الإقتصاد في اليمن لا يُدار بمنطق المصالح الوطنية، بل يُدار ــ أو يُعطَّل ــ وفقاً لمعادلات النفوذ وتقاسم الإمتيازات. ومن هنا، فإن أي حديث عن تشغيل المصافي لا ينبغي أن يُقرأ كنجاح حكومي بقدر ما هو إختبار لنوايا الداخل وخارطة الإرادات الخارجية وفي ظل هذا الواقع المأزوم، لا نملك ترف التفاؤل المجاني، بل نحتاج إلى يقظة وطنية تضع النقاط على الحروف، وتعيد تعريف مفهوم "الإصلاح" بعيداً عن حسابات الإرضاء السياسي أو إستثمار الأزمات....