بقلم: م/فضل علي مندوق
منذ اللحظة التي ارتجّت فيها الأرض بدويّ الانفجارات الأولى في الثالث عشر من يونيو الجاري، بدا وكأنّ التاريخ انفتح على فصل استثنائي في كتاب الصراع الشرق أوسطي، حيث لم تعد الحرب بين إسرائيل وإيران مجرد امتداد تقليدي لحرب ظلّت طويلاً، بل تحوّلت إلى صدام مكشوف بين مشروعين وجوديين لا يتنازعان على النفوذ فحسب، بل على حق البقاء نفسه. لم تعد الغارات المتبادلة، ولا اغتيالات العلماء والجنرالات، مجرد رسائل تحذيرية كما في العقود الماضية، بل باتت إشارات فاصلة في حرب يُراد لها أن تنهي وجود دولة بكاملها، وأن تعيد رسم الخريطة لا بالحبر، بل بالنار والدم. إنها حرب لا تندرج ضمن ما يُصطلح عليه عسكرياً بـ"النزاع المحدود"، ولا حتى بـ"الحرب التقليدية الشاملة"، بل تُلامس تخوم ما يمكن تسميته تجاوزاً – وبدون اعتراف رسمي من القواميس العسكرية – بـ"حرب إزالة دولة" من على الخريطة السياسية والجغرافية، بما يعنيه ذلك من نفي تام للكيان والهوية والشرعية.
إن المنطق الذي يحكم هذه الحرب ليس منطق توازن القوى، ولا حتى منطق الردع المتبادل، بل منطق "الصراع الصفري الوجودي" (Zero-sum Existential Conflict)، حيث لا يرى أحد الطرفين بقاء الآخر إلا كتهديد دائم، ولا يتصوّر أمنه القومي إلا من خلال زوال خصمه. فإيران، بحمولتها العقائدية والتاريخية، ترى في إسرائيل تجسيداً للاستعمار الغربي، وزرعاً غريباً في قلب الأمة الإسلامية، وتهديداً وجودياً لا يُحتوى إلا بالاقتلاع. وإسرائيل، بعقيدتها الأمنية المتجذرة في الهاجس التاريخي من الفناء، ترى في المشروع الإيراني – السياسي والعسكري والديني – قنبلة موقوتة تستهدف تفكيكها من الداخل والخارج، ولا يمكن التعايش معها، بل لا بد من تحييدها أو استباقها بالفناء.
في هذا السياق، تطفو إلى السطح مفاهيم سياسية وعسكرية ذات دلالات عميقة وخطيرة، من قبيل "الإبادة السياسية" (Political Erasure)، و"الهندسة الجيوسياسية" (Geopolitical Engineering)، و"الضربات الاستئصالية" (Eradicative Strikes)، وكلها تنتمي إلى أدبيات صراعية تُعلي من شأن الصدمة، وتُغلق أبواب الحلول الوسط. فليس الهدف هنا إسقاط نظام – كما في حروب تغيير الأنظمة (Regime Change Wars) – بل إزالة كيان، بكل ما يحمله من رموز وذاكرة وسيادة. وهذه النزعة الخطيرة تجد امتدادها التاريخي في محطات مفصلية من القرون الماضية، حين تم طمس كيانات بكاملها من الخريطة العالمية، سواء عبر الحروب الشاملة أو الانهيارات التدريجية.
إن ما جرى لبروسيا بعد الحرب العالمية الثانية، حين تم تقسيم أراضيها بين الاتحاد السوفيتي وبولندا، وما حدث ليوغوسلافيا حين تفككت إلى دويلات متعددة بعد حرب أهلية شرسة، وما آلت إليه الأمور في السودان حين انفصل جنوبه وأعقبه شرخ في دارفور والشرق، كلها شواهد تاريخية على أن الدول – وإن بدت راسخة – ليست بمنأى عن التلاشي. ويُضاف إلى ذلك مثال ألمانيا الشرقية، التي ذابت في شقيقتها الغربية بعد انهيار جدار برلين، وتشيكوسلوفاكيا التي انقسمت سلمياً إلى دولتين بفعل خلافات قومية. غير أن ما نراه اليوم بين إيران وإسرائيل، إن حصل، سيكون سابقة في العصر الحديث، من حيث استهداف الإزالة من الخارج عبر حرب مفتوحة، لا عبر تفكك داخلي.
وإذا تأملنا المفردات المستخدمة في هذا الصراع، نجدها تتجاوز اللغة السياسية التقليدية إلى خطاب تعبوي يهدف إلى نزع الشرعية الكاملة. فإسرائيل تصف النظام الإيراني بأنه "نظام إرهابي مارق"، بينما تصف طهران إسرائيل بـ"الكيان الغاصب"، وتدعو إلى "زواله من الوجود". وهنا تظهر مفاهيم مثل "حرب الهوية السيادية" (Sovereign Identity War) و"النفي الجيو-حضاري"، حيث لا يُراد للعدو فقط أن يُهزم، بل أن يُمحى، أن تُستأصل جذوره من الوعي قبل الأرض، ومن الجغرافيا قبل السياسة.
هذه الحرب، بقدر ما تبدو مسرحاً لتصفية حسابات إقليمية، هي في جوهرها تجسيد لصدام بين مدرستين في فهم الدولة والمكان والدين والتاريخ. فإسرائيل تمثل نموذج الدولة ذات الطابع الأمني المؤسَّس على أسطورة تاريخية دينية وشرعية دولية فرضتها القوة، وتعتبر نفسها محاطة بالأعداء، أما إيران فهي تمثل مشروعاً ثورياً عابراً للحدود، يتبنى مبدأ "تصدير الثورة" و"وحدة محور المقاومة"، ويستند إلى مزيج من القومية الفارسية والشيعية الثورية في تماهي غير مسبوق بين المقدّس والسياسي.
المعركة الحالية تنطوي على أبعاد تقنية وعسكرية بالغة التطور، حيث تدخل في إطار ما يُعرف بـ"حروب الجيل الخامس" (Fifth Generation Warfare)، التي تجمع بين الحرب السيبرانية، والعمليات الخاصة، والتأثير الإعلامي، واستهداف البنى التحتية الحيوية، بحيث يتم إضعاف الدولة وإرباك مؤسساتها قبل الوصول إلى مرحلة التفجير العسكري المباشر. وبهذا المعنى، فإن الإزالة المقصودة قد لا تكون بالضرورة ضرباً نووياً شاملاً، بل تفكيكاً تدريجياً للوظائف السيادية، ونزعاً تراكمياً للشرعية، بحيث تُصبح الدولة موجودة اسميّاً، لكنها غائبة فعليّاً، كما حدث في الصومال في تسعينيات القرن الماضي.
لكن، وعلى الرغم من فداحة المشهد، فإن القانون الدولي لا يعترف بمشروعية الحروب التي تستهدف وجود الدول. ميثاق الأمم المتحدة يُجرم استخدام القوة إلا في حالات الدفاع عن النفس، ويؤكد على مبدأ سيادة الدول ووحدة أراضيها. ومع ذلك، يبقى الواقع الدولي رهين موازين القوى، وليس دائماً رهين المبادئ. فحين تُفرض القوة كأمر واقع، غالباً ما تنحني السياسة أمام السلاح، وتُصبح المبادئ مجرد ترف خطابي.
إن الحرب التي نشبت بين إيران وإسرائيل منذ الثالث عشر من يونيو ليست نهاية فصل، بل ربما بداية عصر جديد في المنطقة، عصر تتقاطع فيه الهويات مع الجغرافيا، وتتصارع فيه السرديات على من يملك حق الوجود. قد لا تُمحى دولة من على الخريطة فعليّاً، لكن المؤكد أن هذه الحرب ستُعيد تعريف معنى الدولة في الشرق الأوسط، وستُعيد رسم الخريطة النفسية لشعوب كانت تظن أن الخرائط لا تتغيّر إلا في كتب التاريخ. إنها حرب تُختبر فيها حدود الصبر والدبلوماسية، وتُستنهض فيها أحلام الزوال والاستئصال، لكنها أيضاً تذكير مرير بأن من يلعب بالنار قد يُحرق الجميع، وقد لا يبقى على الخارطة سوى رماد.