آخر تحديث :الثلاثاء-01 يوليو 2025-02:13م

عشرة دينار جنوبي!!!

الأحد - 08 يونيو 2025 - الساعة 11:10 م
د. غسان ناصر عبادي

بقلم: د. غسان ناصر عبادي
- ارشيف الكاتب



بعد أحداث يناير 86م أنتقلت أسرتي من العاصمة عدن إلى ريف محافظة أبين وتحديدا سكننا في قرية معرج مديرية الوضيع محافظة أبين، والدي رحمه الله كان قائد أمني كبير يحمل رتبة نقيب قبل هذه الأحداث الدامية وكانت رتبته تعادل رتبة وزير الداخلية في ذلك الوقت...


سجن والدي وحكم عليه سبع سنوات مع الاشغال الشاقة وكانت تهمته إغلاق منافذ عدن، بالرغم أنه عسكري ينفذ الأوامر العسكرية، وكانت محاكمته مع زملاءه تنشر في التلفويون كل ليلة...


في عام 1989م أفرج عن الوالد من سجنه السياسي مع مجموعة من السجناء السياسيين وذلك بسبب التقارب بين الشمال والجنوب وتوقيع المعاهدات لتوحيد شطري اليمن...


خرج الوالد إلى قريته مباشرة لان منزله هدم في حرب الرفاق واستقبلنا الوالد بحفاوة بالغة في قريتنا وفرحنا لذلك وكان يوما مشهودا، كانت قريتنا تعيش حياة البادية، لا يتوفر فيها الكهرباء ولا الماء ولا خدمات، وبعد أيام كان والدي يفكر كيف سيعيش ويصرف على أسرته بعد أن خرج من السجن السياسي وقد تم فصله من عمله الأمني بسبب هذه الأحداث الأليمة!؟


باع والدي سيارته الكراسيدا بمبلغ مائة وعشرة الف شلن وكان هذا المبلغ كبير جداً في ذاك الوقت، وكنت حاضر وقت البيع وأنا طفلا في الصف السابع لاني لا افارق والدي منذ خروجه من السجن إلا للحظات، عندما أخذ والدي الفلوس اعطاني ورقة نقدية كبيرة فئة عشرة دنانير وهي أعلى فئة نقدية في البلاد وقال: هذه لك يا ولدي لانك حضرت البيع اصرفها كما تريد، فصدمت من هول المفاجئة وأخذتها وأنا فرحان جداً، وكنت أنظر لها بتعجب وتأمل لأني لم أمتلك هذا المبلغ الكبير من قبل وأعلى مبلغ حصلت عليه خمسة شلن، فكيف بمبلغ مائتين شلن اصرفه، فكنت فرحان ومهموم في نفس الوقت...


حاول والدي يدخل الخدمات الى قريتنا ويدخل السرور إلى أهله أبناء القرية وجاء بفكرة شراء ماطور قوته خمسة الف وات وشكل لجنة من أربعة وجاهات من قريتنا يتحملوا إدارة تشغيل الماطور من خلال دفع الأهالي مبالغ رمزية لانارة منازلهم، وبهذا المشروع التاريخي دخلت الكهرباء الاهلية قريتنا عام 1989م ودخلت التلفزيونات الملونة كل بيت في قريتنا، حيث كان يوجد في قريتنا تلفزيون عادي وحيد يجتمع لمشاهدته كل الاهالي وكان يشتغل ببطارية السيارة، هذا التلفزيون كان لعمي علي محمد علي عبادي حفظه الله ورعاه وهو شقيق الوالد الأكبر...


بعد مشروع الكهرباء الأهلية عمل والدي رحمه الله دكان كبير في قريتنا ووفر فيه كل متطلبات القرية وأشرك عمي الخضر محمد علي عبادي في الارباح وادارة الدكان، فدبت الحياة في قريتنا وانتعشت وكانت القرى المجاورة تحسدنا على ذلك...


عمل والدي حمام مثل حمامات عدن ووفر بيبات مجاري، فكان الاهالي مندهشون من ذلك، بل اهالي القرى المجاورة لم يتقبلوا ذلك وقالوا ناصر محمد أثر عليه السجن، عمل حمام في بيته عجبي!!!

بعدها أنتشرت الحمامات والبيارات بشكل كبير ومذهل في قريتنا والقرى الجاورة بل كان لا يبنى بيت إلا يبنى بجانبه حمام وبيارة...


تبقى للوالد مبلغ محترم من بيع السيارة وكان يذهب إلى محافظة المهرة مع مرافقه عمي عبيد محمد ويشتروا سيارة من هناك رخيصة الثمن ويبيعوها في لودر أو مودية بمبلغ محترم وهكذا...


كان والدي رحمه الله كالغيث أينما وجد نفع، قال لي والدي هل صرفت العشرة دينار!؟، فقلت له لم أستطع، فقال أشتري لنا قصعة صيد نتقرع بها، فأشتريت قصعة من الدكان بمبلغ خمسة شلن وأعاد لي مائة شلن حمراء وأربعة دينار وورقة عشرة شلن وخمسة شلن فلسات، فقال والدي صرفنا لك المبلغ وشد حيلك وأصرف بقية المبلغ وهو يضحك، ساعد بها محتاج وأشتري ما ينفعك...


أذكر أنه ذات يوم كان والدي جالس أمام بيته الحصن ومر عليه بائع متجول مع حماره وكان الرجل كبير في السن فضيفه والدي بقراع وقهوة وكنت جالس معهم فقال له والدي بعد شرب القهوة والسمرة، بكم ستبيع هذا وأشار على خرج الحمار!؟ فقال بالفين شلن فاعطاه والدي المبلغ كامل وقال لي نزل السامان من على الحمار، وبعد أن ذهب الرجل وهو فرحان، قلت لوالدي لماذا أشتريت هذا كله ونحن ليس بحاجته!؟ فقال والدي اريد أن أدخل الفرحة إلى قلب هذا الشيخ الكبير المكافح، وأنصحك يا ولدي أن تدعي بهذا الدعاء اللهم أرزقني وأرزق الناس مني كي يتسهل رزقك...


رحمك الله يا والدي رحمة الأبرار وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، كنت ولازلت أتعلم منكم، وساتعلم منكم عمل الخير ما حييت، فأنت رجل حكيم.




د. غسان ناصر عبادي