في لحظةٍ نادرةٍ من التاريخ البشري، وقف رجلٌ وحده في ظلام الغار، يحمل في صدره نور السماء، لكنه يعود إلى بيته مضطربًا، مرتجفًا، يردد ما تهتز له القلوب:
"زملوني... زملوني... لقد خشيتُ على نفسي... إلى أن قال : ومن سيصدقني يا خديجة؟"
كانت تلك الكلمات هي البذرة الأولى التي زُرعت في صحراء الواقع، لينبت منها أعظم تحوّل عرفته الإنسانية. من قلب الخوف، ولدت الرسالة. ومن ظنّ الوحدة، تولّدت أمة.
"من سيصدقني يا خديجة؟"
كان السؤال وجيهًا، عميقًا، إنسانيًا بكل تفاصيله.
فهذا النبي الذي لم يكن بعدُ نبيًا، يعود من حراء وقد حمّله الوحي ما لا يُطاق... رسالةَ الخلود، وأمانةَ السماء. لكن الخوف لم يكن من نفسه، بل من الناس... من رفضهم، من سخريةٍ قد تكسر، أو تكذيبٍ قد يخذل.
لكن خديجة، المرأة العظيمة، لم تُجب بالكلام فقط، بل بالإيمان.
"كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا..."
بهذا اليقين، بدأت أعظم قصة عرفها التاريخ.
ثم تمرّ الأيام... أعوامٌ من الأذى، والحصار، والفقد، والغربة، والقتال.
يمر بها هذا النبي الرحيم، الذي كان في كل محطة من محطات دعوته، إنسانًا قبل أن يكون نبيًا... رقيق القلب، عظيم الحلم، يبكي حين يُكذّب، ويحزن حين يُعرض عنه، ويبتسم حين يرى طفلًا يضحك في الطريق.
وبعد أكثر من عقدين من الجهاد والدعوة، يدخل الناس أفواجًا في دين الله، وتُضاء مكة بنور الحق، وتفتح القلوب قبل الحصون.
أي قلبٍ يتسع لهذا المشهد؟
وأيّ مشاعرٍ تختلط في تلك اللحظة بين أول سؤال: "من سيصدقني يا خديجة؟"
وآخر نظرة إلى الأمة وهي تكتمل، قبل أن يغادر صاحب الرسالة الدنيا مطمئنًا: "اليوم أكملت لكم دينكم..."
هو مشهد لا يُروى فقط، بل يُبكى له ويُفرح به.
فيه حزن البداية، وفرح النهاية. فيه وجع التكذيب، وبهجة التصديق.
فيه خديجة التي صدّقت، وأبو بكر الذي واسى، وعمر الذي قاد، وعثمان الذي بذل، وعلي الذي نام في فراش الموت، وكل الصحابة الذين آمنوا قبل أن يروا النصر.
هكذا تصنع الرسالات العظماء...
وهكذا تُبنى الأمم.