بعد عشر سنوات من الحرب والدمار، وبعد أن تحوّلت اليمن إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، وصل الحوثي إلى النقطة التي كان كثيرون يتوقعونها منذ البداية: الركوع. لكنه لم يركع لأجل اليمن، ولا من باب الحكمة أو المراجعة، بل خضوعًا مباشرًا لأوامر إيران. خضوعٌ يفضح حجم التبعية، ويكشف حقيقة المشروع الحوثي من أول يوم: مشروعٌ ليس له علاقة لا بالسيادة الوطنية، ولا بالعدالة، ولا بالمقاومة، بل كل ما فيه كان يدور في فلك المصالح الإيرانية وحدها. “استسلم بعد خراب مالطا”.. هذا المثل الشعبي لم يكن يومًا أنسب من الآن. فالحوثي، الذي قدّم نفسه كمنقذ وطني ومحارب للفساد والهيمنة، أسقط الدولة، ودمّر المؤسسات، وشرد الملايين، وأدخل البلد في متاهة من الصراعات الطائفية والمناطقية التي لم يعرفها اليمن من قبل. ثم، وبعد أن أتم الدور المطلوب منه في إضعاف الدولة وتمزيق المجتمع، جاءه الأمر من طهران بالتراجع، فاستجاب فورًا، دون حتى أن يرف له جفن. فماذا جنى اليمنيون ؟ الجواب موجع، لكنه واضح: لا شيء سوى الركام. لا دولة، لا أمن ولا أمان،لا اقتصاد، لا تعليم، ولا صحة. الملايين بين نازح وجائع ومريض، والبنية التحتية دُمّرت بالكامل، والنسيج الاجتماعي تهشّم إلى حدّ غير مسبوق. عشرات الآلاف قتلوا، وأضعافهم أصيبوا أو اعتقلوا أو اختفوا. ومع كل ذلك، لم تتحقق أي من الشعارات التي رفعها الحوثي. لا “تحرير”، ولا “مقاومة”، ولا “سيادة”، بل مجرد خراب.
لقد دمر الحوثي الدولة ومزّق النسيج الاجتماعي، وخاض حروبًا عبثية تحت شعارات طائفية مستوردة، ثم انحنى في النهاية أمام الواقع، لا استنادًا إلى حكمة، بل خضوعًا لتوجيهات إيرانية لا علاقة لها بمصلحة اليمن. فقد كان الحوثي منذ البداية مجرد أداة؛ أداة في يد إيران التي لطالما استخدمت القضية اليمنية كورقة ضغط في مفاوضاتها مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة. ومن يتأمل في هذا المشهد الحزين، يجد أن اليمنيين دفعوا الثمن مرتين: مرة حين اُستخدم بلدهم كساحة صراع، ومرة حين انتهت اللعبة دون مقابل. لا انتصار، لا مشروع، لا كرامة، فقط الدمار. أما إيران، فهي الرابح الوحيد في هذه المعادلة الدموية. فاوضت باسمهم، واستخدمتهم، ثم تخلّت عنهم حين انتهت الحاجة. الأمر لا يختلف كثيرًا عمّا حدث في غزة؛ شعارات كبرى، ووعود بالنصر، ثم في النهاية: لا دعم حقيقي، لا تحرير، بل مزيد من الحصار والمعاناة. وبينما تُقدَّم هذه القضايا في الإعلام كملاحم مقاومة، نجد أن الواقع يكشف عن استغلال سياسي فجّ، ودماء تُراق فقط لتقوية أوراق التفاوض لدى من لا يقاتلون في الميدان، بل يجلسون في غرف مغلقة ينسّقون مصالحهم. إنه مشهد تراجيدي يفضح طبيعة الأدوات في لعبة الأمم. الحوثي لم يكن يومًا سيد قراره، بل كان تابعًا مطيعًا، يُؤمر فيُنفّذ، واليمن كان مجرد ساحة تخدم مشروعًا إقليميًا أكبر. وبينما تبحث طهران عن صفقة، يُدفن آلاف اليمنيين في صمت، وتُمسح مدن من الخريطة. إيران لم تخف يومًا أنها تستخدم أدواتها في المنطقة لتحقيق مكاسبها على طاولة التفاوض مع واشنطن والغرب. والحوثي، من بين كل أوراقها، كان الأداة الأرخص والأكثر طاعة. فبينما كانت طهران تفاوض الأميركيين على رفع العقوبات واستعادة الاتفاق النووي، كانت تعزف على وتر الحوثيين كأنهم جزء من وفدها المفاوض، تُصعّد بهم عندما تحتاج إلى الضغط، وتهدّئهم عندما تقترب من تحقيق مكاسب. الحوثي، إذًا، لم يكن سوى ورقة تفاوضية، سلاحًا في معركة لا علاقة لها باليمن. يُطلق حين تُراد الفوضى، ويُسكت حين تُبرم الصفقات. لقد استخدموه ليُدمّر وطنه، ثم أعادوه إلى حجمه حين انتهت مهمته. منذ بداية الأزمة، لم يكن لليمنيين صوت في تحديد مصيرهم. القادة المحليون، بمختلف ألوانهم، إمّا تبعوا الخارج، أو ارتهنوا للمصالح، أو فشلوا في بناء مشروع وطني حقيقي. وبين هذه الاصطفافات، دفع الشعب الثمن باهظًا. وكلما بدا أن هناك أفقًا للحل، تدخلت قوى إقليمية لتعيد الأمور إلى مربع الصراع، لأن استمرار النزاع كان يخدم مشاريعهم أكثر من أي سلام ممكن. إذا استمر اليمنيون في الانقسام، وإذا بقيت البلاد أداة بيد أطراف إقليمية، فإن النتيجة لن تختلف كثيرًا عما حدث: مزيد من الانهيار، ومزيد من الذل. أما إذا كان هناك فرصة للنجاة، فهي تبدأ بوعي جماعي عميق أن لا طهران، ولا غيرها، حريصة على اليمن، وأن استعادة السيادة تبدأ من الداخل، من بناء دولة تستمد شرعيتها من شعبها، لا من الخارج. لقد قدّم اليمن مثالًا مريرًا لما يحدث حين تتحوّل الأوطان إلى مسارح لتصفية الحسابات الإقليمية. وحين لا يكون القرار مستقلًا، تكون النتيجة معروفة سلفًا. واليوم، بعد كل هذه التضحيات، يعود الحوثي خاضعًا، خانعًا ذليلاً، بلا مشروع، ولا شرعية. أما اليمن، فيبقى ينزف، في انتظار لحظة صادقة من أبناءه، ترفض التبعية، وتعيد الاعتبار لمعنى الوطن. في النهاية، لا يصح إلا الحقيقة: الشعارات لا تبني أوطانًا، والتبعية لا تخلق كرامة، ومن يقاتل في معركة غيره، ينتهي دائمًا بلا نصر، ولا حتى شرف الهزيمة.