آخر تحديث :الأربعاء-03 سبتمبر 2025-03:35ص

رسالة إلى الوالي عن الاقتصاد والسيادة ومأساة التحييد

الثلاثاء - 06 مايو 2025 - الساعة 04:42 م
د. يوسف المقطري

بقلم: د. يوسف المقطري
- ارشيف الكاتب


أيها الوالي: يا مجلس القيادة 'الثمانية'

هذه ليست ورقة نظرية تُقرأ في ندوة، ولا مقالة جدلية تبحث عن جمهور، هذه رسالة لوقت الحرب، نكتبها بالوجع والوعي، بلسان باحث شهد فصول الانهيار ولم يتخلَّ عن الإيمان بالاقتصاد كأداة خلاص.

أولاً: عن الحرب والاقتصاد، ومن يحكم من؟

الحرب لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالمال أولاً. من يملك الموارد، يملك المعركة. لكن في اليمن، ومنذ انفجار الحرب، جرى تجريد الاقتصاد من أصحابه، وإخضاعه لنزوات العسكر ومصالح الأمراء. استُبعد العقل الاقتصادي لصالح "مصلحة الميدان"، وتحولت إدارة الحرب إلى سباق على الغنيمة، لا على النصر. تمامًا كما حدث في التجربة اليابانية حين تم عزل ممثل اللجنة الاقتصادية من مجلس الحرب، بحجة "القرار للعسكر". والنتيجة؛ هزيمة ساحقة بسبب اختلال التمويل، حتى عاد الاعتبار للاقتصاديين، فبدأت اليابان تتعافى.

في اليمن، تكرر السيناريو ولكن بأسوأ نسخة. لم يكتفوا بعزل الاقتصاديين، بل كادوا يجرّمونهم. اختُزل القرار المالي في غرف الفصائل المسلجة، وغُيّبت أدوات الدولة النقدية والمالية. فهل من العقل أن يستمر هذا الحال؟

ثانيًا: لا حياد في سيادة البنك المركزي ( درس من البوسنة):

يروّج البعض لنموذج "التحييد" في التعامل مع البنك المركزي، كما فعلت الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك حين شكّلت بنكًا مركزيًا بثلاث رؤوس: (الأمم المتحدة، الكروات، الصرب). لكن ماذا كانت النتيجة؟ الفوضى. لم تنجح التجربة لأن المركزية النقدية لا تُدار بتوافقات سياسية متناحرة، بل برؤية اقتصادية مستقلة تُحاسَب على أهداف، لا على توازنات، من المؤسف أن تُطرح في اليمن دعوات لتقاسم البنك المركزي بين صنعاء وعدن، وكأننا بصدد تقسيم غنيمة لا إدارة دولة. إن مثل هذه الطروحات ليست وصفة للسلام، بل دعوة صريحة لتكريس الانقسام، وتعميق الصراع، وإجهاض أي فرصة لتعافي الدولة، فالبنك المركزي ليس مجرد مؤسسة خدمية أو محايدة كما يُظن، بل هو مؤسسة سيادية عليا، تمثل عمود الخيمة للاقتصاد الوطني، وتمسك بزمام أدوات الحرب والسلم معًا.

لقد كانت البنوك المركزية ابتكارًا للحروب، وُلدت من رحم الصراع، وتطورت مع الحاجة إلى تمويل الجيوش وتنظيم الاقتصاد زمن الحرب. من "بنك إنجلترا" الذي تأسس عام 1694 لتمويل حرب ضد فرنسا، كانت البنوك المركزية أدوات سيادية لتمويل الحروب، وضبط الأسواق، وتأمين الجبهة الداخلية. ففي زمن الحروب، يتحول البنك المركزي إلى قلب الدولة النابض: يمول الصمود، يوزّع الأعباء، يضبط السوق، يكسب الثقة، ويواجه الانهيار. وهو – بهذه الوظائف – ليس مفصولًا عن الميدان، بل شريك خفي في إدارة المعركة ومآلاتها. تحييده في ظل انقسام السلطة لا يعني الحياد، بل نزع الغطاء عن الشرعية، ومنح العدو أداة جديدة لتكريس سلطته، وهذا تهديد لا يجب التساهل معه، فبديل ذلك ليس التحييد، بل تعزيز سلطة البنك تحت مظلة الشرعية، وتحصينه بسياسات واضحة، ودعم مادي كبير، وقيادة اقتصادية وطنية مؤهلة.

ثالثًا: الحاجة إلى مجلس اقتصادي- سيادي في زمن الحرب:

في كل الحروب تشكّل الدول مجالس حرب عليا، لا تقتصر على العسكريين فقط، بل تضم صنّاع القرار الاقتصادي والمالي الذين يديرون الموارد، يموّلون الصمود، ويخططون للنصر أو السلام. البنك المركزي، ووزارات المالية، وهيئات التخطيط، ليست أدوات محايدة، بل أذرع سيادية تُفعّل بأقصى طاقتها في زمن الحرب. لذا، الحاجة ماسة اليوم لبناء مجلس اقتصادي سيادي، لا تابع سياسي، يُعيد توجيه القرار نحو خدمة المصلحة الوطنية، ويضمن أن الاقتصاد ليس ضحية الحرب، بل شريك في حسمها.

لم يعد مقبولًا أن تبقى قرارات التمويل والمصروفات، سواء المدنية أو العسكرية، مرهونة بأهواء المتنفذين والفصائل، المطلوب هو هندسة جديدة لاقتصاد الحرب، لا بالتحايل على المؤسسات بل بترميمها من الداخل، وإعادة بناء ثقة الناس والأقليم والعالم بها.

رابعًا: رسالة إلى الاقتصاديين (لا زعماء ولا موظفون):

قلتها سابقًا وأكررها اليوم بوضوح أكبر: لا أخاطب أمراء الحرب ولا الساعين خلف المناصب، بل أوجّه ندائي إلى الاقتصاديين اليمنيين الذين غيّبتهم الغربة، أو أُنهكوا تحت وطأة التهميش والنسيان. أولئك الذين يملكون الكفاءة والرؤية لوضع تصورات واقعية ومتكاملة لإدارة اقتصاد الحرب، وتهيئة الأرضية لاقتصاد ما بعد الحرب.

لقد آن الأوان أن تنهض الجامعات اليمنية ومراكز الدراسات المحلية بمسؤوليتها الوطنية، فتشكّل فرق عمل علمية لا تكتفي بإنتاج أوراق توصيفية تُرضي الممولين، بل تعدّ ملفات استراتيجية تنبع من فهم عميق للواقع، وتبني على السيناريوهات المحتملة للمستقبل، لتُقدَّم كأدوات ضغط ومشاريع بديلة على طاولة السلام. نحن بحاجة إلى مبادرات علمية تنبع من الداخل، لا تستجدي الخارج، وتُقدَّم باسم الشعب لا النظام، لتكون شرطًا لبقاء الوطن، لا أداةً لضمان بقاء النخب المسيطرة.

خامسًا: المانحون لا يعطون إلا لمن يساعد نفسه:

كل مؤتمرات المانحين منذ 2006 حتى الآن كانت مليئة بالوعود، لكنها دائمًا مشروطة بالإصلاحات. لم يكن الإخفاق بسبب قلة المال، بل بسبب انعدام الثقة. كان العالم ينتظر أن يرانا نثق ببعضنا، فنفوز بثقته، لكن الانقسامات، والمحاصصات، وتوزيع الأدوار على أساس الولاء، لا الكفاءة، أحبطت كل محاولة.

على مجلس القيادة الرئاسي، "مجلس الثمانية"، أن يتصرف كهيئة دولة لا كتحالف فصائل. أن يُظهر للعالم وحدة رؤية، ويبدأ بإعادة الاعتبار للسياسة النقدية كجزء من السياسة السيادية. أن يفهم أن التضخم، والانقسام النقدي، والفوضى المصرفية، ليست شؤونًا تقنية، بل ساحة حرب كبرى.

سادسًا: في زمن الحرب، تُبنى الأمم أو تُفنى:

في زمن الحرب تتعطل الأسواق، وتُلغى القوانين، ويتقدم العسكري على المدني، لكن هذا لا يعني إلغاء العقل، بل على العكس، أعظم الدول التي خاضت حروبًا هي تلك التي أبقت الاقتصاد في صلب المعادلة. في الحرب العالمية الثانية، لم يكن كينز على الجبهة، لكنه كان في قلب القرار، لم يطلق رصاصة، لكنه حرّك جيوشًا عبر المعادلات والخطط الاقتصادية والأبتكار المالي.

أما نحن، فنعيش حالة فريدة حيث يحتكر أمراء الحرب القرار الاقتصادي ويحاصرون الشعب بالتجويع تحت شعار 'الأولوية للميدان'. لكن الميدان لا ينتصر إذا جاع المدنيون وانهارت العملة وتقاتلت السلطات النقدية على طباعة الأوراق. نعم، لقد أصبحت الحرب أكثر ربحًا لكم من السلام."

سابعًا: دعوة إلى صناعة سياسة اقتصادية وطنية بديلة:

لقد آن أوان إطلاق مشروع اقتصادي بديل، لا ينتظر إذنًا من الخارج ولا يطلب توجيهًا من المانحين. مشروع يدمج الاقتصادي بالمصرفي، ويضع خريطة واضحة لتمويل الدولة من مصادر محلية، ويعيد ضبط سعر الصرف، ويعالج التشظي النقدي، ويرسم طريقًا لإعادة الإعمار على أسس علمية لا شعارات.

لقد كتبت ذات مرة: "الوصول إلى المرتفعات الاقتصادية، هو المعادل الموضوعي للسيطرة على الأرض سياسيًا". واليوم أقول: إن من يُرد نصرًا تفاوضيًا، عليه أولًا أن ينتصر اقتصاديًا، أو على الأقل أن يوقف النزيف.

ثامناً: السيادة الاقتصادية والسلام المستدام:

لقد أثبتت التجارب التاريخية أن السلام القائم على تقاسم المؤسسات أو إفراغها من وظيفتها السيادية لا يصمد طويلاً. اتفاق دايتون مثلًا، الذي أنهى الحرب في البوسنة والهرسك، أنشأ بنكًا مركزيًا بخمسة أعضاء: اثنان من الصرب، واثنان من الكروات، وواحد تعينه الأمم المتحدة عند تساوي الأصوات، وهو ما حول المؤسسة من ذراع سيادي إلى غرفة تمثيل عرقي هشة. أما اتفاق فرساي، فرغم أنه أنهى الحرب العالمية الأولى، إلا أن ما فرضه من إذلال اقتصادي ومؤسساتي على ألمانيا كان سببًا مباشرًا في اندلاع الحرب العالمية الثانية. من هنا، فإن أي اتفاق سلام في اليمن ينشأ على التقاسم بين أطراف الصراع ليس حيادًا، بل وصفة لإعادة إنتاج الحرب، ولو بعد حين، ما لم يكن التفاوض مبنيًا على قوة اقتصادية وعسكرية يفضي إلى اتفاق مرضٍ لكل الأطراف وليس إذلالًا يفرض من الخارج."

في الختام – لا سلطان فوق الاقتصاد إلا العقل:

أيها الوالي:

يا مجلس القيادة 'الثمانية'، لو ركز كل واحد منكم على بند مما سبق وعمل على تنفيذه، لحصل كل منكم على نصيبه وأكثر مما يأمل نتيجة الوفرة، وليس على فتات الاقتصاد الذي تتقاتلون عليه. فاليمن زاخر بالخيرات.

ما أكتبه لكم ليس تشخيصًا، بل توصيفًا لطريق ما زال في اليد متسع، وما زال في الناس أمل، لكن النوافذ تضيق والناس يتألمون. فلا تكرروا خطيئة اليابان، ولا تسيروا خلف أوهام البوسنة 'تحييد' السيادة النقدية، ولا تقتلوا ما تبقى من الثقة. أعطوا الاقتصاد موقعه، يعطكم الوطن فرصة جديدة، حتى لا تكون فرساي أخرى، فتُجرون إلى التسوية كالنعاج.