في الثالث من مايو من كل عام، يقف العالم وقفة احترام وتقدير للصحافة، ولأولئك الذين نذروا أقلامهم للحق، وضمائرهم للشعوب.
إنه اليوم العالمي لحرية الصحافة، مناسبة تتجاوز الاحتفاء الشكلي لتتحول إلى لحظة تأمل في حال مهنةٍ باتت تخوض معاركها على أكثر من جبهة، من جبهة الحقيقة التي تتهددها الشائعات، إلى جبهة الحرية التي تضيقها القيود، وجبهة القيم التي تلوثها الانتهازية.
الصحافة ليست رفاهية ولا ترفًا، بل هي ضرورة وجودية لأي مجتمع حر وعادل. هي السلطة التي لا تملك أدوات القمع، لكنها تملك سلاح الوعي، وهي المؤسسة التي لا تُسنّ القوانين لكنها تُسائلها، وتراقب تطبيقها.
إنها مهنة المتاعب حين تكون وفية لرسالتها، وخفيفة الظل فقط حين تُفرغ من معناها.
ولأننا نعيش في زمن لا يُشبه سواه، فقد أصبحت المهنة اليوم على مفترق طرق حاسم، خاصة مع صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحوّل غرف التحرير إلى خوارزميات تتنبأ وتنتج وتحرر. نعم، التكنولوجيا فتحت آفاقاً مذهلة، لكنها أيضاً تطرح أسئلة موجعة، من يتحكم بالسرد؟ من يملك الحقيقة؟ ومن يحمي الصحفي من أن يُستبدل بـ"روبوت" لا يتعب ولا يُخطئ لكنه أيضاً لا يشعر؟
حرية الصحافة لا تُقاس فقط بعدد الوسائل المتاحة للنشر، بل تُقاس بمستوى الأمان الذي يحظى به الصحفي، وبالهامش المتاح له ليقول "لا" حين يطلبون منه تزوير "الواقع". تُقاس بقدرته على تمثيل الناس لا الأنظمة، وعلى فضح القبح لا تلميعه.
لكن ثمة ما يجب أن يُقال بصراحة، ليست كل ممارسة إعلامية تُعد صحافة. فبقدر ما نحارب من أجل حرية التعبير، علينا أن نحارب أيضاً ضد الفوضى الإعلامية، وضد خطاب الكراهية، وتزوير الحقائق، وبيع الذمم. حرية الصحافة لا تعني حرية الإساءة، ولا تبرر خيانة المهنية. ومن لا يحترم مهنته، لا يحق له أن يطلب احترام حريته.
في هذا اليوم، نوجه التحية لكل صحفي ظل واقفاً في وجه الخطر، متمسكاً بشرف الكلمة، رافضاً أن يكون بوقاً أو أداة.
نحيي من اختاروا أن يكونوا شهوداً أمناء على الألم، لا صانعيه. ونؤكد أن الصحافة ستظل، ما بقيت قلوبٌ تنبض بالعدل، شمسًا تضيء العتمة، وصوتًا لا يسكته التهديد.
المجد للصحافة الحرة... والخلود لكل قلم لا يكتب إلا بما يُمليه عليه ضميره.