ليس هناك ما يبرر أن يتحول وطنٌ بأكمله إلى ساحة مفتوحة للقصف والتجريب العسكري، ولا يمكن أن يكون استهداف مدينة أو منطقة بحجة وجود جماعة مسلحة فيها مجرد تفصيل هامشي في معادلة الحرب. اليمن ليس ملكًا للحوثي، لكنه أيضًا ليس مشاعًا للقوى الدولية والإقليمية التي تتعامل معه كأرض مستباحة، تضربها بالصواريخ متى ما دعت الحاجة إلى توجيه رسائل سياسية أو فرض معادلات جديدة. إن استهدافه، سواء من قبل الحوثي أو من قبل الولايات المتحدة، لا يصب إلا في مصلحة استمرار الفوضى، وتعميق أزمة الشرعية، وتعقيد إمكانية بناء دولة مستقرة.
القصف الأمريكي، الذي يُروّج له على أنه رد على تهديدات الحوثي في البحر الأحمر، ليس إلا استكمالًا لمسلسل استباحة البلاد تحت ذرائع مختلفة. يتكرر المشهد ذاته منذ عقود: تُستخدم اليمن كحلبة لتصفية الحسابات الدولية، تُهدم بنيتها التحتية، يُستنزف شعبها، ثم تُترك في فراغ سياسي لا يؤدي إلا إلى إنتاج أنماط جديدة من الهيمنة والعنف. في كل مرة يضرب فيها صاروخ أمريكي هدفًا داخل اليمن، يُرسَّخ لدى الكثيرين أن السيادة الوطنية لم تعد سوى وهم، وأن بلادهم ليست أكثر من مساحة جغرافية يُعاد رسم حدود قوتها وفق إرادة الخارج.
المفارقة الكبرى أن هذا القصف لا يضعف الحوثي، بل يمنحه مبررًا وجوديًا. فكل صاروخ يسقط، وكل ضربة توجهها واشنطن، تعزز من سردية الحوثي بأنه الطرف الوحيد الذي يقاتل ضد التدخلات الأجنبية، وتجعل منه في أعين مؤيديه "المقاومة" أمام ما يعتبرونه عدوانًا دوليًا. إن التعامل مع الحوثي كظاهرة عسكرية فقط، ومحاولة سحقه بالقوة الجوية، ليس مجرد خطأ استراتيجي، بل هو إعادة إنتاج لنفس السياسات التي أسهمت في صعوده منذ البداية: ترك البلاد في حالة من الفوضى، واستبدال الاستبداد المحلي بالهيمنة الخارجية، دون تقديم أي مشروع وطني حقيقي يكون بديلًا عن كل هذه الأشكال من القمع.
إن الحديث عن سيادة الدولة اليمنية لم يعد مجرد شعار، بل قضية جوهرية تتعلق بوجود اليمن نفسه. فمنذ سنوات، واليمن يُدار عبر وكلاء، عبر ميليشيات مدعومة خارجيًا، أو حكومات تفتقر إلى الاستقلالية السياسية، أو قوى إقليمية وعالمية تتدخل متى ما شاءت، وتنسحب متى ما انتهت مصالحها. في ظل هذا الوضع، لم يعد المواطن اليمني يرى في الدولة كيانًا يحميه، بل مجرد مساحة يتصارع عليها اللاعبون الكبار.
الولايات المتحدة ليست معنية بإنقاذ اليمنيين من استبداد الحوثي، تمامًا كما أن الحوثي لم يكن يومًا معنيًا بمصالح اليمنيين. هذه الحرب ليست معركة بين طرفين متضادين بقدر ما هي صراع على من يملك اليد العليا في التحكم بمصير بلد بأكمله. وبينما تُدمر المدن واحدة تلو الأخرى، وتُزهق أرواح المدنيين تحت ذريعة مواجهة الحوثي، لا أحد يقدم حلًا حقيقيًا يعيد للبلد توازنه، بل يتم تعميق الانقسام، وترسيخ الاحتلالات بأشكالها المختلفة، وإطالة أمد الحرب التي لا يتغذى عليها سوى تجار السلاح والطامعون بالنفوذ.
الحوثي يجب أن يُجتث، لكن ليس عبر أدوات تمنحه سببًا إضافيًا للبقاء. لا يمكن إسقاط مشروعه الطائفي عبر تمزيق البلاد أكثر، ولا يمكن هزيمته عبر تسليم اليمن للتحكم العسكري الأمريكي، أو عبر صفقات تُعقد في العواصم الكبرى دون أن يكون لصوت اليمنيين أي دور فيها. الحل لا يكمن في الصواريخ، بل في بناء دولة قادرة على استعادة شرعيتها بنفسها، دولة لا تكون رهينة لأي طرف، سواء داخليًا أم خارجيًا.
استعادة اليمن ليست مجرد مسألة عسكرية فحسف، انها مشروع سياسي واجتماعي متكامل. لا يمكن القضاء على الحوثي بوسائل تعيد إنتاج الظروف التي سمحت له بالتمدد، ولا يمكن مقاومة التبعية للخارج بمزيد من الارتهان للقوى الدولية. اليمن ليس ساحة حرب، وليس مختبرًا للمشاريع الأجنبية. هو وطن له شعب، له تاريخ، ويستحق أن يكون له مستقبله المستقل، بعيدًا عن كل هذه الحسابات التي تراه مجرد رقم في معادلات القوة العالمية.