الجبان يتصف بصفة بالغة السوء. فمادام جبانا فهو لا يقول كلمة الحق، انه حتى لا يقف بجانبها وبالتالي من المستحيل أن يحارب من أجل نصرتها. لهذا السبب الوحيد مثل وحدة اليمن، يزرع الحكام الظالمين بذور الجبن في بلدانهم لكيلا يواجه ظلمهم أحد مستقبلا. الدنيا تحترق، تنهار من حول أي جبان فيتفرج محسبنا. الدنيا التي تحترق، على فكرة يعني، هي دنيته الشخصية لكنه مطبق الصمت، مفرط المشاهدة الى درجة مرضية. اللصوص من حوله ينهبون، يستثمرون في عقارات ثروات بلاده التي خصصوها لهم، اما هو فلا شأن له لا من قريب ولا من بعيد بشأنه. الناس من حوله تعرى، تجوع، تفترش الشوارع، لا تجد حتى من يتصدق عليها. الجميع في ضائقة. فيعلل الجبان الأمر على انه أمر الله، فنحن قوم مؤمنون لا نعترض على أقدار الله. اليمن نفسه، إذا كان لا يزال بالإمكان تسميته وطن، تجرد من محتوى الوطن المتفق عليها إنسانيا. فما عاد الأمان، ولا العدل، حتى الحبل السري الذي يربطنا به لم يعد موجودا الا خيط رفيع من خيوط الخياطة. أكثر من نصف شباب هذا الزمن صار حلمهم اللجوء. باختصار الجبان لا يهمه الا سلامة بدنه وسقفه، إلى جهنم وبئس المصير كل ما عدا ذلك.
هو اليوم مثل كل يوم يدفع عربته الى ركن ثابت كل صباح، فوقها وعاء معدني، اسود، كبير مليء بزيت تم استخدامه بتكرار حتى احترق وصار اسود من اوضاع اليمن. موقد صغير فيه عين نار واحدة تشبه في لونها ضربات اليمن. يبيع الشبس مع الشطة والكتشب. يتهافت عليه الأطفال، الرجال، الشابات والجميع. ليس لأن الشبس مغذي، أو نظيف أو صحي فهو فعلا ليس كذلك. لا لا لا. بل لأنه مشبع ورخيص. لا بأس إن كان هذا الشاب البائع المتجول هذا خريج حاسوب. ماذا يفيد الحاسوب في عصرنا الحجري هذا؟ يتعرض أحيانا لبلطجة شبابا متسكعين يهجمون عليه ويأخذون شبس بدون دفع قيمته. كان يقاومهم على استحياء. الجبان تتعطل لديه غريزة الغضب. لا بأس أن أكلوا شبس بدون دفع قيمته خيرا من ان يقلبوا العربة ارضا، فيسيل الزيت على اسفلت الشارع ويدمرون رزقه. بل قد ينكلوا به، ويضربونه فلا يعود الليل لزوجته وابنته وهم من يقلي الشبس من اجل اطعامهم بالحلال. فميزة الجبن كعيب من الأساس ان الانسان يظل بخير " ظاهريا".
كانت مأساته ليست في وضعه المالي المتدني ولا امكانياته المهدرة. بل كانت في كونه واع لما آلت اليه أحلامه، طموحاته وتوقعاته. يحاول دفع ذكريات هذه الأحلام والطموحات بعيدا عن روتين يومه كلما راودته، لأنها كانت تتسبب في حزن يظهر على محياه. يدفعها متشاغلا بقلي الشبس متبسما للزبائن. يفكر في الشمس والناس لكي يطرد تلك الأفكار. ُيسخف من قيمة الاحلام والطموحات ويقول لنفسه ان ماهي الا اسواط جلد في بلد مثل اليمن. صار كل شيء في اليمن جميل، كذب. العذاب ان تتمنى. ان السعيد هو ذاك الذي لا حلم ولا طالب بأي شيء ولا تمنى، بل ركع وامام الأقوياء انحنى.
في صباح يشبه كل الصباحات، حدث ما جعل ذلك الصباح مختلفا. كان يقلي الشبس بانتظار خروج الطلاب من المدرسة التي يبيع امامها الشبس. مر رجل في منتصف الثلاثين قائلا له أنه يريد شبس بألف ريال. فرح الشاب وعبأ سريعا خمسة أكياس، كل كيس بمائتين ريال. سأل الرجل عن الإضافات التي يريدها. أعطاه الأكياس الخمسة، لكن الرجل طلب بألف ثانية. فرح الشاب كثيرا وعبأ خمسة أكياس أخرى. اخذ الرجل الشبس وهم بالمغادرة عندما استوقف الشاب الرجل، متفاجئا :- " لم تعطني الألفين؟" ضحك الرجل بكل سطوة معلقا:- " أساسا انا لن اعطيك شيئا. قلت لك الفين كي تعرف الكمية. اما المال فلن تنال شيئا. فماذا انت فاعل؟" سأله هذا السؤال ووجهه يجيب " لن تفعل شيئا." الرجل من حراس بيت عاقل الحارة. تمتم الشاب بصوت خفيض ان مبلغ الألفين كثير، سيجامله بكيس شبس بمائتي ريال مجانا، لكنه يحتاج ان يستلم المتبقي أي ألف وثمان مائة. شرع الرجل بأكل الشبس والشاب يتوسل بخوف. هم الرجل بالرحيل. رمى بأحد أكياس الشبس الذي التهمه فصار فارغا في اتجاه الشاب، قائلا له:- " خذ الكيس. كرر استخدامه يا بغل، سينفعك يا عديم المنفعة. تقلي شبس؟ أي سلوك نسائي هذا؟ يلا هذا ما لك عندي. هيا لا تصدع برأسي. المرة القادمة لا تضيف ملح كثير هكذا. لا أحب الملح الزائد، هل سمعت؟" تمنى الشاب لو كانت الفاظ التنمر رجلا لقتله. لكنه كان أجبن من قتل حتى الالفاظ. حرفيا الوضع أعدم من الرجال الرجولة. فماذا كان سيحدث لو قال له مثلا لا لم اسمع. تشوق لو عاجله بلكمة على أنفه. رغب من اعماقه لو سكب الزيت الأسود المغلي فوقه. لكنه قال:-" حاضر." ولد متربي، مطيع هذا الشاب. لقنه الطغاة درس الجبن، وحقنوه بحقن الجبن ليسلم.
لم يكن يعرف ان الكلمات قد تجرح أكثر من سكين، لكنه صباح ذلك اليوم عرف! بغل، عديم المنفعة، سلوك نسائي. لكن الحمد لله. لا تزال العربة معه والزيت الأسود. الدنيا بخير والأمور سلامات، كل شيء مبشر. هناك ناس ُتحبس، وتموت. عاد الشاب الى دكانه حيث يسكن، رأي عراك بالأيدي بين صاحب دكان - بقالة - ونفس الرجل الذي اشترى منه بألفين ولم يدفع. كان يحاول اخذ بعض دخل الدكان وصاحب الدكان يمنعه، كانوا يتجاذبون الدرج الذي فيه الدخل لذاك اليوم. هل جن صاحب الدكان ليقاوم؟ سيندم بعد فوات الأوان. الا يعرف من الرجل وكم نفوذه؟ تجمع الناس وفصلوا بين المتعاركين. كان صاحب الدكان يتوعد بضربه مرة أخرى، وحارس العاقل يحلف يمين انه سيقتله. ما كان يجب ان تصل الأمور لهذا الحد. كان جديرا بصاحب الدكان أن يعطيه ماله عادي، أي شي في هذا؟
لم يقترب الشاب من مسرح الشجار. بل دفع عربته محاذية للجدار لكي يعود الى منزلة دون ان يكلم أحد. في الطريق سمع صراخ واصوات تتداخل وتعلو. فهم منها ان الحارس عاد للتو وطعن صاحب الدكان امام الملأ. فماذا استفاد المسكين من محاولة اخذ حقه؟ خسر صاحب الدكان عمره، واثكل أمه. غالب الشاب دمعة خاف ان تسيل فيقول أيا من المارة انه حزين على المغدور به فيصل الأمر للحارس ويأتي مجهزا عليه هو الأخر. حياة المرء لدى البعض باتت لا تساوي حتى بصقة. لكن لا بأس معه العربة والزيت. سيبيع غدا وسوف يخصص مقدار يومي لحارس عاقل الحارة. نحن نغني للشر ونبعد عنه منذ الأزل. لا جديد في الأمر. يا رب ألا يأتي حارس العاقل غدا ويسلب منه العربة والزيت. لأنه إن فعل فلن يقف امامه ولا سيواجه ابدا. يأخذهن لا بأس. سيقلي بعدها هواء، سيبيع هواء، سيكون دخله هواء، سيأكل هواء، سيشرب هواء، سيسكن في هواء حتى تصعد روحه الى السماء عبر الهواء. لا بأس الهواء أيضا جميل. يا رب دم عليه ميزة الجبن... فإن بعض الصفات ظاهريا تبدو عيبا لكنها واقعيا أكبر ميزة في الهواء.