آخر تحديث :الأربعاء-18 يونيو 2025-10:28م

تغريبة الموت والحياة

الأربعاء - 20 يوليو 2016 - الساعة 12:19 م
عبدالعزيز العرشاني

بقلم: عبدالعزيز العرشاني
- ارشيف الكاتب



تفوح في المكان رائحة البارود والموت والدمار. بينما القاطنين من السكان يتحركون بصعوبة، الظهور محنية، والأيدي تتأرجح بتثاقل، والوجوه الشاحبة تتجه نحو الأرض بزاوية حادة بينما العيون غائرة في محاجرها؛ والأبصار شاردة. هكذا حالهم ذكورا كانوا أو إناث، أطفال أم بالغين، كهول أو شباب. سواء في البيوت والأزقة والحواري. أو في الأسواق والمتاجر ومقار العمل، وكأنهم في مقبرة كبيرة الجميع فيها أموات إلا أنهم يمارسون طقوس الحياة اليومية.. أحاديثهم العفوية الهامسة وكتاباتهم التلقائية تتمحور حول الحرب الدائرة، وعنها سمعت أراء متعددة ومختلفة ومتباينة إلا أن البعض منها وهي التي شدت انتباهي لاتصب في جهة السياسة أو تنحو لجانب الوطنية أو حتى تنحاز للتعصب. بل تعبر بوضوح إنساني وبصدق داخلي عن دراما الموت والحياة. ﺃﻭلاها بالسخط وعدم الرضا عن الحرب فقائل:
ﻣﻨﺬ أن ﺑﺪﺃت الحرب ﺍﻧﺘﻘﻠﺖ ﺯﻭﺟﺘﻲ إلى ﻋﺎﻟﻢ ﺃﺧﺮ ﻓﻬﻲ اثر القصف والإنفجارات تتخوف ﻣﻦ أن ﺗﺼﺎب فتتكشف ويطلع الآخرون على ماتخفي من جسدها؛ ولذلك برأيها يجب أن تستعد للموت من الآن وفي كل حين، وعلى إثر شعورها هذا وضعت على رأسها كوفية وغطت ﻭﺟﻬﻬﺎ ﺑﺎﻟﻠﺜﺎﻡ ﻭﻳﺪﻳﻬﺎ ﺑﺎﻟﻜﻔﻮﻑ ﻭﺭﺟﻠﻴﻬﺎ بالجوارب ولبست ﺑﺎﻟﻄﻮ ﻣﺨﺼﺮ ضيق ﻭآﺧﺮ ﻭﺍﺳﻊ ﻭﻓﻮﻗﻬﻤﺎ ستارة صنعانية (هي غطاء نسائي كبير على شكل مستطيل إذ أن احد طرفيه أطول من الطرفين الآخرين تضعه المرأة على رأسها من منتصف الطرف الطويل لينسدل طرفاه على جانبيها لتقبض كل يد بطرف وتلفه على جسدها ليغطيها حتى يصل إلى الأرض وهو مشابه للجلباب أو الجلابية المصرية مايميزه هو الأشكال الهندسية الملونة) ﻭﺗﺤﺘﻬﺎ ﺳﺮﻭﺍﻝ مطاطي ضيق ﻓﺂﺧﺮ وﺍﺳﻊ ﻓﺄﺣﺪ ﺑﻨﻄﻠﻮﻧﺎﺗﻲ ليصبحوا ثلاثة ﻻﺗﻨﺰﻋﻬﻢ عنها ﺣﺘﻰ ﻓﻲ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺍﻟﻨﻮﻡ، وﻭﺟﻬﻬﺎ ﻻيظهر إلا أثناء الأكل. ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻛﺨﻴﻤﺔ ﻣﺘﻨﻘﻠﺔ، ﻭﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺴﻤﻊ ﺃﺯﻳﺰ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺍﺕ ﺣﺘﻰ ﻭﺃﻥ ﻛﺎﻥ ﺻﻮﺕ ﺩﺭﺍﺟﺔ ﻧﺎﺭﻳﺔ ﺣﺘﻰ تظم رجليها إلى صدرها بيديها، وﺗﻐﻄﻲ وجهها ﺑﺒﺮﻗﻌﻬﺎ الطويل الذي يصل إلى كاحل رجلها وهي جالسة؛ ﻭﻛﺄننا أغراب عنها ﻻﺗﻌﺮﻓﻨﺎ ﻭلاﻧﻌﺮﻓﻬﺎ أشبه ماتكون بالسلحفاة التي تخفي نفسها في قوقعتها الذي يمثل منزلها تحل وترحل وهو على ظهرها، ﻭﻓﻲ الليالي المشحونة بحركة الطائرات لاتنام بل تظل طوال الليل ﺟﺎﻟﺴﺔ ﺍﻟﻘﺮﻓﺼﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺃﻃﺮﺍﻑ ﺃﺻﺎﺑﻌﻬﺎ ﺩﺍﺧﻞ ﺧﻴﻤﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﺘﺤﺮﻛﺔ. ﻳﻀﻴﻒ ﺑﺎﻟﻘﻮﻝ:
ﻟﻘﺪ ﺍﺷﺘﻘﺖ ﻟﺮﺅﻳﺔ أصابع يديها وقدميها، ﻟﻢ ﺃﻋﺪ ﺃﻃﻤﻊ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺷﻲء. ﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺗﻤﺮﺽ ﺃﻭ ﺗﺼﺎﺏ ﺑﻤﻜﺮﻭﻩ ﺗﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻨﺎ اليومية ويضيع أبنائي ويتشردون، وخوف زوجتي الشديد أنتقل إلى أطفالنا كعدوى فأصبحت نظراتهم شاردة. طويلي الصمت. يجفلون لأدنى حركة أو لسماع صوت. جل حديثهم يتمحور عن القتل والحرب. نومهم متقطع وقد نستيقظ على صراخ أحدهم، أما أصغرهم فأصبح يخاف من الظلام ومن دخول الحمام بمفرده. بل انه في كثير من الليالي يتبول على نفسه، وأصبح كلامه متقطع ومبهم لايخلو من التأتأة.
يصمت المتحدث لوقت طويل وكأنه يريد أن يشعر بنفسه قبل أن يقول:
أريد أن استحم بشكل طبيعي. أن تغسل ملابسي بشكل جيد. أن أتحسس الطعام بين أصابعي واشعر بطعمه في فمي. إن جميع أمورنا أصبحت إسقاط واجب لاغير. إننا أموات في صورة أحياء. ملابسنا هي أكفاننا التي نغيرها في بعض الأحيان. لاتدري في أي وقت تسقط ميتا. تظن أن اليوم هو أخر عهدك بالدنيا وليس لك غد، وأن وجبة طعامك التي تأكلها هي الأخيرة، ونظرتك لأهلك لن تستطيع أن تثنيها. يختم حديثه بزفرة طويلة ويردف:
أريد أن أحيا وأن أعيش بشكل طبيعي.

آخر يتحدث بالرضا والقبول يقول:
ﻣﻨﺬ ﺃﻥ ﺑﺪﺃﺕ الحرب ﺩﺧﻠﺖ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ إلى ﺑﻴﺘﻨﺎ الصغير المتواضع- ﻳﻀﻴﻒ ﺳﺮﻳﻌﺎ ﻟﻴﺒﻌﺪ ﻋﻼﻣﺎﺕ ﺍﻟﺘﻌﺠﺐ ﻭﺍلاﺳﺘﻐﺮﺍﺏ من ﻗﺴﻤﺎﺕ ﻭﺟﻬﻲ- إﻥ زﻭﺟﺘﻲ ﺗﺨﺎﻑ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻭﺑﺴﺒﺐ ﺫﻟﻚ ﺗﻈﻞ ﻣﻠﺘﺼﻘﺔ ﺑﻲ ﻟﻴﻞ ﻧﻬﺎﺭ إن خرجت من غرفة إلى أخرى فهي خلفي، ورغم أننا متزوجان منذ فترة إلا أننا لم نرزق بأطفال يضحك قبل أن يضيف:
هل تصدقون أنا اقضي حاجتي وهي معي في الحمام وعند أن تقضي حاجتها فأنا شريكها في الحمام..  في النوم تتشبث بي كطفلة صغيرة وبجهد جهيد استطيع أن أتقلب من جانب لآخر على فراشي، وبالكاد تتركني ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺫﻫﺎﺑﻲ ﻟﻠﻌﻤﻞ. تزيد هذه الحالة عند سماع أصوات الطائرات، وإن حدث قصف يزيد التصاقها بي، وفي الإنفجارات القريبة ويالسعادتي يلتصق صدرها بصدري وأنفاسها تختلط بأنفاسي- ويشرق وجهه كطفل- يسترسل:
أنت تعرف الباقي فقد نقضي ليلة حمراء أو صباح احمر أو حتى ظهيرة حمراء لافرق في ذلك، وبعد أن كنت ألاحقها تغير الحال وأصبحت أنا الملاحق والمنشود والهدف لقد أصبحت الحضن الآمن لها؛ ومنذ بدأت الحرب أتقدت لدينا جذوة الحب من جديد بعد أن مرت بحالة من السبات لقد أصبحت أعرف معنى الحياة والسعادة وأصبح لحياتي الزوجية طعم ورائحة ونكهة وأصبح السرير جنتنا الصغيرة.