كتب/ د. الخضر عبدالله:
تخرج من بيتك بعد صلاة الفجر، والمدينة لا تزال تفرك عينيها ببطء. هواء عدن في هذا الوقت مختلف؛ أخفّ، وأقرب إلى القلب، كأنه يمرّ عليك ليذكّرك بأن هذا الصباح ما زال بخير، مهما أثقلته الأيام. تمشي في شوارع الشيخ عثمان، المدينة التي لا تنام تماماً، لكنها تمنح الفجر حقه في الهدوء والتأمل.
كبار السن والخطوات الخاطفة
أول ما يلفت انتباهك هو الصوت الخافت لخطوات رجال كبار في السن، يسيرون بهدوء كأنهم يعرفون الطريق حتى وهم مغمضو العينين. وجوههم مألوفة، وبعضها صار جزءاً من المشهد اليومي. عند ناصية الشارع، يجلس ثلاثة منهم حول موقد صغير، أكواب الشاي تتصاعد منها أبخرة خفيفة، تمتزج برائحة الفحم. أحدهم يمسك الكوب بكلتا يديه، كأنه يحتضن الدفء، ويقول بصوت منخفض: الشاي بعد الفجر غير . يضحك الآخرون، ضحكة قصيرة تحمل الكثير من الرضا.
تمضي قليلاً، فتجد رجلاً آخر يجلس على كرسي خشبي مهترئ، يطالع صحيفة قديمة. يقلب الصفحات ببطء، وكأنه لا يبحث عن خبر بعينه، بل عن إحساس قديم كان يجده بين السطور. يرفع رأسه أحياناً، يراقب الشارع الخالي نسبياً، ثم يعود إلى القراءة. تسأله إن كانت الأخبار جيدة هذا الصباح، فيبتسم ابتسامة متعبة ويقول: الأخبار تتغير، لكن الشارع هذا ما يتغير .
فتح أبواب الرزق
مع كل خطوة تخطوها، تبدأ المدينة في الاستيقاظ على مهل. أبواب المحلات تُفتح واحداً تلو الآخر، تصدر عنها صرير مألوف، صار جزءاً من موسيقى الشيخ عثمان الصباحية. رجال في أعمار مختلفة، لكن أغلبهم من الكبار، ينحنون لترتيب بضائعهم. هذا يرصّ صناديق الخضار بعناية، وكأنه يضع أشياء ثمينة، وذاك يمسح واجهة محلّه بقطعة قماش مبللة، يحاول أن يمنح زجاجها بعض اللمعان رغم غبار الأيام.
تتوقف عند بقالة صغيرة، صاحبها رجل سبعيني، يبدأ يومه قبل الجميع. يضع الميزان في مكانه، يراجع الأسعار المكتوبة بخط اليد، ثم يجلس قليلاً أمام المحل، يراقب الشارع. يقول لك: تعودنا نصحو مع الفجر. اللي يتأخر، يفوته رزقه . في عينيه يقين لا تهزه الأزمات، كأنه تعلّم عبر السنين أن الرزق يحتاج صبراً أكثر مما يحتاج حظاً.
جالسون: الدنيا تغيرت
على الرصيف المقابل، يجلس رجلان يتبادلان الحديث عن أيام مضت. يتحدثان عن الشيخ عثمان حين كانت الأسواق أكثر ازدحاماً، وحين كانت الرواتب تكفي البيوت، وحين كان الصباح يبدأ بضجيج مختلف. أحدهما يهز رأسه قائلاً: الدنيا تغيّرت، بس إحنا باقيين . الجملة بسيطة، لكنها تحمل ثقلاً يشبه ثقل السنين التي على أكتافهم.
من سكون الفجر إلى صخب النهار
مع تقدم الوقت، تبدأ أصوات المدينة في الارتفاع تدريجياً. حافلة قديمة تمرّ ببطء، بائع متجول يجر عربته، وصوت مذياع ينبعث من محل لبيع قطع الغيار، يبث أغنية عدنية قديمة. كبار السن يبدون كأنهم حراس هذا الوقت؛ يشهدون التحول من سكون الفجر إلى صخب النهار، دون استعجال.
تمرّ بجانب محل خياطة، صاحبه رجل تجاوز الستين، يجلس أمام ماكينة قديمة. لا يبدأ الخياطة بعد، فقط يهيئ المكان، يلمس القماش بيده، وكأنه يحييه قبل أن يعمل به. يقول لك: الصباح هذا وقت البركة. حتى الشغل يكون أخف . خلفه، صور قديمة معلقة على الجدار، تشهد على سنوات طويلة من العمل في المكان ذاته.
في زاوية أخرى، يقف رجل يبيع الخبز الساخن، يوزعه على أصحاب المحلات الذين لم يتناولوا فطورهم بعد. يتبادلون معه كلمات سريعة، دعوات بالرزق وطول العمر. المشهد بسيط، لكنه مليء بحميمية لا تُشترى.
كبار السن زينة المدينة
وأنت تواصل السير، تدرك أن الشيخ عثمان بعد الفجر ليست مجرد شوارع ومحلات، بل حالة إنسانية كاملة. كبار السن هنا ليسوا عابرين في المشهد، بل عموده الفقري. هم من يحافظون على الإيقاع القديم للمدينة، يبدؤون يومهم بهدوء، ويواجهون الحياة بعناد صامت.
أسواق الصباح.. بركة الوقت وحركة الناس
وإذا وجّهت وجهك نحو المطاعم والمخابز، تجدها وقد امتلأت بالزبائن بعد صلاة الفجر مباشرة. أبوابها مفتوحة على مصاريعها، وروائح الخبز الساخن والفول والعدس تنتشر في المكان، تجذب العابرين وتوقظ الشهية. عمال المخابز يتحركون بسرعة، يخرجون الأرغفة تباعاً، والزبائن يصطفون في طوابير قصيرة، بعضهم يحمل إفطاره معه إلى العمل، وآخرون يجلسون على كراسٍ بسيطة يتبادلون أحاديث الصباح الأولى.
وعلى مقربة منهم، يبدأ باعة الأسماك في تجهيز مفارشهم منذ ساعات الفجر الأولى. تُصفّ الأسماك بعناية فوق الثلج، وتُرشّ بالماء للحفاظ على نضارتها، فيما تتعالى أصوات الباعة وهم ينادون على بضاعتهم، كلٌّ يعرض صيده الطازج وكأنه يعرض كنزاً ثميناً. الزبائن يتفحصون السمك بخبرة، يسألون عن السعر، ويختارون ما يناسبهم قبل أن تشتد حرارة النهار.
ولا يختلف المشهد كثيراً عند باعة الحنّ والخضار والفواكه، حيث تُفرش السلال على الأرصفة، وتُرتّب الخضروات بألوانها الزاهية، من طماطم وخيار وبصل، إلى فواكه موسمية تفوح منها رائحة الطزاجة. هنا تبدأ المساومات الخفيفة، وتُتبادل التحيات والدعوات بالرزق، في طقس يومي يعكس علاقة حميمة بين البائع والزبون.
أما سوق اللحم، فينبض بالحركة منذ الصباح الباكر. الجزارون يجهزون محلاتهم، يعلّقون اللحوم الطازجة، ويشحذون سكاكينهم استعداداً ليوم طويل. زبائن يتوافدون مبكراً لشراء حاجتهم، إيماناً بأن رزق الصباح بركة . في هذا السوق، كما في بقية أركان المدينة، ينتشر الناس بعد صلاة الفجر كلٌّ في طريقه، يطلب رزقه بهدوء وإصرار، ليبدأ يومه على أمل جديد.
حين ترتفع الشمس… ينتهي صمت الفجر وتبدأ حكاية الشارع
حين تقترب الشمس من الارتفاع، يبدأ الشارع في الامتلاء أكثر، وتخفّ جلسات الشاي، وتُطوى الصحف، ويعود الجميع إلى أعمالهم. تشعر أنك كنت شاهداً على لحظة خاصة، لحظة لا يراها إلا من يخرج مبكراً، بعد صلاة الفجر، ويمنح المدينة فرصة أن تحكي قصتها قبل أن يعلو الضجيج.
تعود أدراجك، والشعور يرافقك بأن الشيخ عثمان، رغم كل ما مرّ بها، ما زالت تعرف كيف تبدأ يومها. تبدأه برجال كبار في السن، بأكواب شاي، بصحف قديمة، وبمحلات تُفتح على أمل جديد. تبدأه بالحياة، كما اعتادت دائماً.