كتب/ د. الخضر عبدالله:
في قلب الأسواق الشعبية، حيث تختلط أصوات الباعة بنداءات الزبائن، وتفوح رائحة الفل والمشموم في الأجواء، يقف شوقي سالم عايش، رجل يبلغ من العمر 44 عامًا، ممسكًا بعناقيد الزهور البيضاء، محاولًا أن يصنع من هذا الجمال البسيط مصدر رزق يعيل به أسرته الكبيرة. ليست قصته غريبة عن واقع كثير من اليمنيين، لكنها تختصر معاناة طويلة، وصبرًا ممتدًا عبر سنوات من العمل الشاق.
شوقي هو واحد من آلاف المواطنين الذين لم يحصلوا على وظيفة حكومية، رغم سعيهم المتواصل منذ سنوات الشباب. ومع غياب فرص العمل الرسمية، وجد نفسه مضطرًا إلى الاعتماد على العمل الحر، فاختار مهنة بيع الفل والمشموم، وهي مهنة بسيطة في ظاهرها، لكنها شاقة في تفاصيلها اليومية. يقول شوقي بابتسامة هادئة تخفي الكثير من التعب:
“الحمد لله، يوم نكسب ويوم نخسر، لكن الرزق على الله”.
منذ 27 عامًا، يمارس شوقي هذه المهنة. بدأها وهو في سن السابعة عشرة، حين لم يجد أمامه خيارًا آخر لإعالة نفسه ومساعدة أسرته. تعلّم مع مرور الوقت أسرار المهنة؛ متى يكون الفل في أجود حالاته، وكيف يُحفظ من الذبول، وأفضل الأوقات لعرضه في السوق. لم يدخل مدرسة تجارة، لكن السوق كان مدرسته، والتجربة كانت معلمه الأول.
يبدأ يوم شوقي مع ساعات الفجر الأولى. يخرج من منزله المتواضع، مودّعًا أبناءه الثمانية، ثم يتجه إلى محافظة لحج، حيث يشتري الفل والمشموم من المزارعين. الرحلة ليست سهلة، فهي تتطلب تكاليف نقل وجهدًا بدنيًا، إضافة إلى مخاطر الخسارة إن لم تُبع البضاعة في نفس اليوم. فالفل زهرة حساسة، لا تحتمل التأجيل، وإن ذبلت خسر البائع ماله وتعبه.
يقول شوقي وهو يرتّب الزهور بعناية:
“الفل مثل الحياة، إذا ما اهتمّيت به، يذبل بسرعة”.
كلمات بسيطة، لكنها تعكس فلسفة رجل اعتاد مواجهة القسوة بالصبر، والخسارة بالأمل.
يعيل شوقي أسرة كبيرة مكوّنة من ثمانية أبناء، تختلف احتياجاتهم بين التعليم، والغذاء، والملبس، والعلاج. ورغم حرصه على توفير حياة كريمة لهم، إلا أن دخله غير المستقر يجعل الأمر بالغ الصعوبة. فهناك أيام يعود فيها إلى منزله وقد باع معظم بضاعته، وأيام أخرى يعود خالي الوفاض تقريبًا، محمّلًا بفل ذبل قبل أن يجد من يشتريه.
تفاقمت معاناة شوقي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع أسعار النقل، وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين. هذه العوامل جعلت مهنة بيع الفل أقل ربحًا مما كانت عليه في السابق. ومع ذلك، لم يفكر شوقي يومًا في تركها، لأنها مصدر رزقه الوحيد، ولأنه لا يملك بديلًا آخر.
في السوق، يعرفه الجميع. أصبح شوقي جزءًا من المشهد اليومي، ووجهًا مألوفًا لدى الزبائن. كثيرون يشترون منه ليس فقط لجودة بضاعته، بل لصدقه وأمانته. تقول إحدى الزبونات:
“شوقي رجل طيب، نثق فيه، ورزقه من تعبه”.
هذه الثقة هي رأس ماله الحقيقي، الذي حافظ عليه طوال سنوات عمله.
ورغم كل هذه السنوات من الكدّ، لا يملك شوقي أي ضمانات اجتماعية. لا تأمين صحي يحميه إن مرض، ولا راتب ثابت يعتمد عليه، ولا جهة رسمية ترعى أوضاعه. مرضه يعني توقفه عن العمل، وتوقف العمل يعني انقطاع مصدر الرزق عن أسرته بالكامل. واقع قاسٍ يعيشه هو، ويشاركه فيه آلاف من الباعة البسطاء.
ورغم ذلك، لا يشكو شوقي كثيرًا. يكتفي بالحمد، ويواصل السعي. لكنه يرى أن المرحلة الحالية تتطلب التفاتة جادة من الدولة. يقول بنبرة صادقة:
“نطلب من الدولة النظر في أحوالنا. نحن لا نطلب المستحيل، فقط نريد أن نعيش بكرامة”.
مطالب شوقي بسيطة، لكنها جوهرية؛ دعم صغار الباعة، تنظيم الأسواق، توفير قروض صغيرة، أو إيجاد مشاريع بديلة تضمن لهم دخلًا مستقرًا. فهؤلاء الباعة يشكّلون شريحة واسعة من المجتمع، ويساهمون في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي، رغم تجاهلهم في كثير من السياسات.
قصة شوقي سالم عايش ليست مجرد حكاية بائع فل، بل شهادة حية على واقع اجتماعي واقتصادي صعب. هي قصة رجل حمل الزهور على كتفيه، وحمل همّ أسرته في قلبه، وسار في طريق طويل من الصبر دون أن يفقد كرامته أو أمله. وبين رائحة الفل والمشموم، تختبئ حكاية كفاح تستحق أن تُروى، وأن تُسمَع، علّها تصل إلى من بيده القرار، فينظر بعين الرحمة والإنصاف إلى أمثال شوقي، الذين يصنعون من البساطة حياة، ومن التعب املأ.