آخر تحديث :الخميس-27 نوفمبر 2025-07:09م
أخبار وتقارير

تحليل سياسي :حضرموت الطلقة التي ستغير وجه اليمن

الخميس - 27 نوفمبر 2025 - 05:43 م بتوقيت عدن
تحليل سياسي :حضرموت الطلقة التي ستغير وجه اليمن
القسم السياسي عدن الغد


تبدو حضرموت اليوم كمعادلة سياسية معقدة أكثر منها محافظة يمنية تعيش توترا بين قوتين محليتين فالمشهد في جوهره لم يعد محصورا في أسماء بعينها أو في تراشق تصريحات بين قائد عسكري وآخر قبلي بل بات ساحة اختبار لتوازنات إقليمية ودولية تنظر إلى حضرموت باعتبارها إحدى آخر الأوراق الثقيلة في الجغرافيا اليمنية وما يزيد هذه المعادلة تعقيدا أن المحافظة تقف الآن فوق ثروة خاملة بنية تحتية نفطية متوقفة عن العمل منذ العام 2022 بفعل الضربات الصاروخية الحوثية على ميناء الضبة ومنشآت التصدير لكنها مع ذلك تظل في عين الحسابات الدولية باعتبارها خزانا احتياطيا يمكن أن يعود إلى المشهد في أي لحظة إذا تبدلت المعادلات الأمنية والسياسية


هذا التوقف الكامل لتصدير النفط لا يعني أن أهمية حضرموت تراجعت بل على العكس تماما صارت المحافظة ورقة مؤجلة في يد كل اللاعبين إذ تدرك القوى الإقليمية والدولية أن إعادة تشغيل صادرات النفط والغاز لن تتم إلا عبر بوابة الاستقرار في حضرموت وشبوة والمناطق المحاذية للبحر العربي وأن أي صياغة لمستقبل اليمن السياسي لن تكون قابلة للحياة ما لم تمنح هذه المناطق وضعا خاصا يضمن تدفق الموارد وحماية الممرات البحرية واستقرار خطوط التجارة الدولية هنا تحديدا يتجاوز الملف الحضرمي حدود الجغرافيا المحلية ليصبح جزءا من نقاش أكبر حول أمن الطاقة في المنطقة وحول شكل الحضور الخليجي والأمريكي والبريطاني على طول الساحل الممتد من المهرة إلى باب المندب


حين تقرأ حضرموت بهذه الطريقة تتبدل زاوية النظر تماما فالنزاع الداخلي بين القوى الأمنية والقبلية ليس مجرد تنافس على نفوذ داخل مديرية أو مدينة بل هو انعكاس لصراع صامت على من يمتلك حق الإدارة عندما يحين وقت العودة إلى الإنتاج والتصدير البنية النفطية اليوم متوقفة لكن الأنابيب والموانئ والحقول والطرق لا تزال هناك قائمة في مكانها تنتظر لحظة قرار دولي وإقليمي بإعادة تشغيلها وحين يأتي ذلك القرار سيكون السؤال الحاسم من يملك السيطرة على الأرض ومن يمسك بالمراكز الأمنية والعسكرية المحيطة بالحقول والموانئ ومن يملك شرعية التوقيع والقبض والصرف في حضرموت


هذا السؤال هو الذي يفسر حدة الصراع المتصاعد في المحافظة ويكشف أن الخلاف أبعد من أن يكون سوء تفاهم بين شيخ قبلي وقائد قوات دعم أمني هناك مشروع يريد لحضرموت أن تدار كإقليم مستقر نسبيا له إدارة محلية قوية قادرة على فرض الأمن وتمرير الترتيبات الاقتصادية المستقبلية وهناك مشروع آخر لا يمانع أن تبقى المحافظة مساحة نفوذ متداخل مجزأة الولاءات بحيث لا يستطيع طرف واحد أن ينفرد بالقرار فيها في ظل هذا التداخل يبدو مجلس القيادة الرئاسي نفسه عاجزا عن الإمساك بخيوط اللعبة فهو من جهة محتاج إلى حضرموت كمصدر ثروة مستقبلي ومن جهة أخرى محكوم بتوازنات حلفائه الإقليميين الذين لديهم رؤاهم ونفوذهم وأدواتهم على الأرض


التوقف عن التصدير منذ 2022 جعل حضرموت مركز ثقل مؤجل لكنه في الوقت نفسه حرر القوى الدولية من ضغط الحاجة العاجلة فصار بإمكانها أن تتعامل مع الملف الحضرمي بهدوء أكثر دون خوف من تعطل شحنات قائمة أو خسارة موارد آنية غير أن هذا الهدوء الظاهر يخفي قلقا عميقا فإبقاء منشآت النفط والموانئ في حالة تجميد طويل الأمد لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية كل الأطراف تدرك أن لحظة ما ستأتي سيطرح فيها ملف استئناف التصدير على الطاولة سواء في سياق تسوية سياسية شاملة في اليمن أو ضمن تفاهمات جزئية تعيد تشغيل بعض الحقول والموانئ تحت ترتيبات أمنية خاصة وعند تلك اللحظة سيتحول ما يحدث اليوم في حضرموت إلى استثمار سياسي وعسكري من يسيطر على الأرض سيكون الأقرب إلى التحكم في شروط العودة إلى السوق النفطية


من هنا فإن أي صدام مسلح داخل حضرموت لن يقرأ دوليا على أنه حادث محلي بل سيفهم فورا بوصفه محاولة لتغيير ميزان القوى قبل استئناف تشغيل البنية النفطية والغازية القوى الغربية التي تتابع الملف اليمني رغم انشغالها بملفات أخرى تنظر إلى حضرموت في إطار أوسع يرتبط بأمن البحر العربي والمحيط الهندي وبالحد من تهديدات الجماعات المتطرفة وبالتوازن مع النفوذ الإيراني الذي تمدد عبر الحوثيين إلى البحر الأحمر وإذا تحولت حضرموت إلى ساحة قتال مفتوحة فإن هذا يعني في لغة الاستراتيجيات أن آخر منطقة قابلة للتوظيف الاقتصادي في اليمن قد دخلت دائرة الفوضى وأن هامش المناورة أمام الرياض وأبوظبي وواشنطن ولندن في استخدام الورقة الاقتصادية اليمنية قد تقلص بشدة


ولذلك قد لا تسمح هذه العواصم بانزلاق الأوضاع إلى حرب شاملة لكنها في الوقت نفسه قد تغض الطرف عن احتكاكات محسوبة تخدم لعبة الضغط والابتزاز السياسي أشبه بمعادلة رياضية حساسة يسمح فيها بقدر محدود من التوتر لإرسال رسائل متبادلة بين القوى المحلية والإقليمية دون أن يتجاوز التوتر عتبة تهديد المنشآت النفطية أو الموانئ أو الطرق الدولية ولكن مثل هذه الحسابات الدقيقة كثيرا ما تسقط عند أول رصاصة تخرج عن السيطرة خاصة في بيئة مشحونة ومليئة بالسلاح والولاءات المتشابكة مثل اليمن عموما وحضرموت على نحو خاص


أما على مستوى مجلس القيادة الرئاسي فإن المعضلة تتضاعف فالمجلس من الناحية النظرية هو المرجعية العليا للقرار في المحافظات المحررة لكن حضرموت عمليا تحولت إلى حقل اختبار لقدرته على أن يكون دولة لا مجرد إطار لتقاسم النفوذ عجزه عن تقديم رؤية واضحة لمستقبل إدارة الأمن والثروة في المحافظة يعني أن القوى الدولية لن تراهن عليه كثيرا عندما يحين وقت إعادة تشغيل قطاع النفط وهذا العجز ليس فنيا فقط بل سياسي أيضا فالمجلس حبيس توازنات داخلية بين قوى لها امتداداتها في حضرموت بعضها يراهن على تثبيت نفوذ عسكري طويل الأمد وبعضها الآخر يراهن على الحلف القبلي والاجتماعي فيما يظل صوت حضرموت ككل غائبا أو مغيبا خلف شدة الضجيج


على الضفة الأخرى يتحرك الحس الحضرمي الشعبي بين رغبتين متناقضتين ومتداخلتين في آن هناك من يرى أن الفرصة التاريخية سانحة لتثبيت حضور حضرمي سياسي واقتصادي مستقل نسبيا عن المراكز الأخرى في اليمن على قاعدة الأرض لأهلها وأن أي صدام اليوم إن حسم لصالح مشروع محلي قد يؤسس لمعادلة جديدة في مستقبل الدولة اليمنية تمنح حضرموت وضعا خاصا وهناك من يخشى أن ينقلب أي صدام إلى كارثة تدمر ما تبقى من استقرار نسبي وتحول المحافظة إلى نسخة جديدة من جبهات أخرى احترقت فيها المدن والقرى باسم المشاريع الكبرى والحقوق التاريخية


هنا يدخل البعد الدولي مرة أخرى فالدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية والإمارات لا تنظر إلى حضرموت بعين واحدة لكل منهما حساباته ورؤيته للأمن والاقتصاد على الساحل اليمني الأولى تحتاج إلى حدود شرقية وغربية آمنة تربطها ببحر العرب دون تهديد وتريد شريكا يمنيا قادرا على أن يكون بوابة عبور لخططها الاقتصادية الجديدة والثانية بنت جزءا من نفوذها البحري على موانئ ومناطق استراتيجية في الجنوب وتسعى إلى تثبيت حضور طويل الأمد على خطوط الملاحة والتجارة هذه التناقضات الناعمة بين الشريكين الإقليميين تنعكس في صورة متكسرة داخل حضرموت حيث تجد قوى محلية نفسها أقرب عمليا لهذا الطرف أو ذاك ولو دون إعلان مباشر


وإذا انتقلنا خطوة أبعد سنجد أن القوى الغربية وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا ترى في حضرموت عنصرا محوريا في أي استراتيجية لمكافحة الإرهاب وتأمين الممرات البحرية تجربة تنظيم القاعدة في المكلا قبل سنوات لا تزال حاضرة في ذاكرة العواصم الغربية وهي تدرك أن أي فراغ أمني جديد في المحافظة قد يعيد إنتاج سيناريوهات خطرة تجعل من حضرموت مرة أخرى مسرحا لجماعات مسلحة تستغل تداخل القبيلة والجغرافيا والفراغ السياسي لهذا السبب فإن هذه القوى لن تقبل بسهولة بتفكك المؤسسات الأمنية أو تضارب القوات المنتشرة في الوادي والساحل إلى حد يهدد بظهور فراغ أمني واسع


في ضوء كل ذلك يبدو أن حضرموت تسير على حافة خط رفيع خط بين أن تتحول إلى نموذج لاتفاق محلي إقليمي دولي يعيد تشغيل ثروتها ضمن صيغة سياسية هادئة أو أن تنزلق إلى مواجهة تسقط آخر أوراق الثقة في إمكانية بناء نموذج مختلف داخل اليمن فالتوقف عن تصدير النفط منذ العام 2022 جعل الجميع يعيشون في هدنة اقتصادية قسرية الحكومة لا تجني إيرادات والحضارم لا يستفيدون من ثروتهم والتحالف لا يوظف ورقة النفط في أي تفاوض لكن هذه الهدنة لن تدوم طويلا عندما تنكسر هذه الحالة سيكون من يمسك بالميدان قادرا على فرض شروطه ومن هنا تأتي خطورة اللحظة الراهنة


التحليل الذي يتوقف عند أسماء محددة أو عند آخر تصريح أو تسجيل صوتي يفوت جوهر الصورة فحضرموت ليست مجرد حلقة في سلسلة صراعات داخلية بل عقدة مركزية في رسم ملامح اليمن المقبل وفي تحديد شكل الحضور الإقليمي على سواحله وفي حسابات أمن الطاقة الدولية وأي رصاصة طائشة هناك قد لا تغير فقط شكل السلطة في مدينة أو مديرية بل يمكن أن تدفع ملفات كاملة على طاولة التفاوض الإقليمي والدولي إلى اتجاهات غير محسوبة وتجعل من حضرموت عنوانا جديدا لأزمة أكبر بكثير من حدود واديها وساحلها


فتحي بن لزرق