آخر تحديث :السبت-22 نوفمبر 2025-01:10م
أخبار وتقارير

تحليل سياسي : الصراع الأخير

السبت - 22 نوفمبر 2025 - 12:16 م بتوقيت عدن
تحليل سياسي : الصراع الأخير
القسم السياسي صحيفة عدن الغد: فتحي بن لزرق

تخوض حكومة رئيس الوزراء الدكتور سالم بن بريك واحدة من أعقد المعارك التي عرفتها الحكومات اليمنية خلال العقد الأخير، وهي معركة “تجميع الإيرادات”، أو ما تُسمّى داخل الأوساط السياسية والدبلوماسية بـ“معركة الدولة ضد اقتصاد المجموعات”.

هذه المعركة ليست إجرائية ولا مالية فقط، بل صراع سياسي عميق على شكل الدولة، وحدود سلطتها، وموقع الحكومة داخل خارطة النفوذ المشتتة منذ سنوات. فالإيرادات لم تعد مجرد أرقام تدخل البنك المركزي، بل أصبحت معيارًا لوجود الدولة من عدمها، وبوابة لفتح ملفات الإصلاحات الاقتصادية التي يطالب بها المجتمع الدولي، ويعتبر نجاحها شرطًا لبقاء الحكومة قادرة على الاستمرار وتمويل الخدمات الأساسية، وقطع الطريق على اقتصاد الحرب الذي تكرّس خلال السنوات الماضية.


منذ أن تسلّم بن بريك رئاسة الحكومة، كان واضحًا أن الملف الاقتصادي هو مركز ثقل الحكومة، وأن المجتمع الدولي يراقب بدقة ما إذا كانت السلطة التنفيذية ستنجح في توحيد الإيرادات العامة، ووقف النزيف الحاصل نتيجة احتفاظ السلطات المحلية والمحافظين بمواردهم بعيدًا عن البنك المركزي في عدن.

وهذا الاحتفاظ لم يكن مجرد “تجاوز إداري”، بل تحوّل خلال السنوات الماضية إلى نمط حكم قائم على اقتصاد محلي مغلق، لكل محافظة بوابته وصندوقه وموازنته، ما جعل الحكومة المركزية عاجزة عن دفع الرواتب في بعض الأشهر، وغير قادرة على إصلاح التعليم والصحة والأمن والخدمات.


ويأتي دخول الحكومة الحالية إلى هذه المعركة في ظل إرث ثقيل خلفته الحكومات السابقة التي فشلت في فرض مركزية الإيرادات. فكل حكومة كانت تعلن بدء “الإصلاحات”، لكن المحافظين والنافذين كانوا يتمكنون في نهاية المطاف من تعطيل القرارات، عبر بنية نفوذ مركّبة، فيها السياسي والاقتصادي والعسكري والمناطقي، ما جعل الحديث عن توحيد الإيرادات أقرب إلى حلم نظري بعيد عن الواقع. إلا أن لحظة بن بريك تبدو مختلفة جزئيًا، لا لأن الظروف الداخلية أسهل، بل لأن المجتمع الدولي أصبح أكثر تشددًا في ربط أي دعم اقتصادي بإصلاحات ملموسة على الأرض.


الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، وصندوق النقد، إضافة إلى العواصم المؤثرة في الملف اليمني، باتوا يكررون موقفًا واحدًا: “لن يكون هناك دعم دون توحيد الإيرادات”. وهذا الموقف لم يعد مجرد توصية، بل تهديد واضح بدأ يصل إلى المحافظين عبر قنوات دبلوماسية، تلوّح بفرض إجراءات عقابية ضد أي طرف يعيق الإصلاحات، وهو تطور مهم لأنه يرفع الغطاء السياسي عن حالة التفلت المالي التي كانت تتمتع بها بعض المحافظات.


لكن رغم هذا الدعم، لا تزال التحديات التي تواجه حكومة بن بريك معقدة للغاية. فالإيرادات ليست مجرد ملف مالي يتم حله بقرار إداري، بل ترتبط بشبكات مصالح تشكلت خلال سنوات الحرب، وبقوى أمر واقع ترى في الإيرادات المحلية موردًا للاستمرار، وورقة قوة تمنحها نفوذًا سياسيًا وأمنيًا داخل مناطقها. ومن هنا، فإن أي محاولة لنقل هذه الأموال إلى البنك المركزي ستكون مواجهة مباشرة مع هذه القوى، ومع شبكات متجذرة من المستفيدين.


ومن التحديات الأخرى أن بعض المحافظات بات لديها هياكل مالية خاصة، وصناديق مستقلة، وقيادات محلية تمتلك نفوذًا لا يقل أحيانًا عن نفوذ الوزارات المركزية، ما يجعل الصدام مع هذه السلطات المحلية أمرًا محفوفًا بالمخاطر. كما أن بعض القوى السياسية لا ترغب أصلًا بنجاح الحكومة، لأنها ترى في نجاح الإصلاحات تعزيزًا لموقع رئيس الوزراء داخل المشهد السياسي، وهو ما يهدد طموحاتها ونفوذها داخل الدولة.


ومع ذلك، فإن بن بريك يمتلك عددًا من عناصر القوة التي لم تتوفر لرؤساء حكومات سابقين. أول هذه العناصر هو الإجماع الدولي على دعم الإصلاحات، والثاني هو القبول الشعبي الواسع لفكرة استعادة الدولة المركزية، خصوصًا في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع. المواطن اليوم لم يعد مستعدًا للدفاع عن سلطات محلية احتفظت بالمال لكنها لم تقدم الخدمات. بالعكس، هناك شعور عام بأن توحيد الإيرادات قد يكون الطريق الوحيد لإنقاذ الرواتب، واستعادة الخدمات، وإعادة ترتيب المؤسسات.


العامل الثالث الذي قد يساعد بن بريك هو أن أزمة سعر الصرف باتت تهدد الجميع دون استثناء، وأن استمرارها بهذا الشكل سيؤدي إلى وضع كارثي يشمل كل المحافظات، بما في ذلك التي تحتفظ بإيراداتها. وهذا الواقع يجعل أي مقاومة لجهود الحكومة تبدو أقرب إلى انتحار سياسي، لأن الانهيار المالي سيبتلع كل الأطراف.


لكن عوامل الفشل لا تزال قائمة بقوة، وعلى رأسها أن الحكومة لا تمتلك بالكامل أدوات القوة على الأرض، وأن بعض المحافظات محمية بقوى سياسية وعسكرية تجعل قرار نقل الإيرادات معركة لها امتدادات تتجاوز الاقتصاد. كما أن ضعف الأدوات الرقابية، وغياب منظومة مؤسسية متماسكة داخل الحكومة نفسها، يضعف قدرة بن بريك على فرض قراراته، حتى إن كان يمتلك الإرادة.


ويبقى السؤال المركزي: هل سيجد بن بريك نفسه في نفس مصير الحكومات السابقة؟ أم أن اللحظة السياسية، وطبيعة الدعم الدولي، والرغبة الشعبية، ستكون كافية لخلق تحول حقيقي؟


الإجابة معقدة، لكنها مختلفة عن الماضي. فالحكومة اليوم تحت ضغط غير مسبوق، ليس فقط من المجتمع الدولي، بل من واقع اقتصادي ينهار بسرعة. لم يعد الأمر ترفًا سياسيًا يمكن تأجيله، بل قضية “وجود أو انهيار”. وفي لحظات كهذه، يكون النجاح أو الفشل مشروطًا بقدرة الحكومة على اتخاذ قرارات صعبة، وعدم التراجع أمام الضغوط المحلية.


وإذا تمكنت الحكومة من تحقيق اختراق في هذا الملف، حتى لو تدريجيًا، فإن ذلك سيغيّر شكل الدولة اليمنية خلال السنوات القادمة. لأن توحيد الإيرادات يعني تقليص اقتصاد المجموعات، وإعادة إنتاج مركزية مالية، وبناء موازنة حقيقية، ووقف الفساد اللامحدود الذي اتسع تحت مظلة الحرب. كما يعطي الحكومة قدرة على إدارة الخدمات، ودفع الرواتب، وإجراء إصلاحات هيكلية في القطاع الاقتصادي.


أما في حال فشلت الحكومة، فإن العواقب ستكون قاسية، ليس فقط عليها، بل على الدولة نفسها. لأن فشل هذه المعركة يعني استمرار الانهيار المالي، وانهيار العملة، وتعمق اقتصاد الحرب، وتفتت ما تبقى من سلطة الدولة. وفي هذا السيناريو، سيكون من الصعب على أي حكومة مستقبلية استعادة الدولة، لأن شبكات المصالح ستكون قد أصبحت أقوى من الحكومة نفسها.


وفي ضوء كل ذلك، يبدو أن معركة الإيرادات ليست اختبارًا للحكومة وحدها، بل اختبارًا للمجتمع الدولي أيضًا، وللقدرة على الانتقال من دعم “أمني–إنساني” إلى دعم “اقتصادي–مؤسسي”. والكرة الآن في ملعب الحكومة، التي يجب أن تثبت أنها قادرة على ترجمة هذا الدعم إلى خطوات فعلية، لا مجرد بيانات وتصريحات.


إن مستقبل الحكومة الحالية، ومستقبل الإصلاحات، وربما مستقبل الدولة اليمنية نفسها، يتوقف على نتائج هذه المعركة. فإذا نجح الدكتور سالم بن بريك في توحيد الإيرادات، سيكون قد وضع أول حجر في إعادة بناء الدولة. وإن فشل، فسيجد نفسه في الطريق ذاته الذي سارت فيه الحكومات السابقة، طريق بلا نهاية، تنتهي فيه الدولة بالتآكل البطيء.


وهكذا، فإن معركة الإيرادات اليوم ليست مجرد خطوة مالية، بل لحظة فاصلة بين دولتين: دولة تنهار ببطء منذ سنوات، ودولة تحاول أن تُبعث من جديد.