آخر تحديث :الجمعة-07 نوفمبر 2025-02:00م
ملفات وتحقيقات

هدنة الشتاء تكشف الفاتورة.. كيف تحوّلت حرارة عدن إلى محرك صامت لزيادة الفقر؟

الجمعة - 07 نوفمبر 2025 - 11:43 ص بتوقيت عدن
هدنة الشتاء تكشف الفاتورة.. كيف تحوّلت حرارة عدن إلى محرك صامت لزيادة الفقر؟
إعداد: حيدره الكازمي

هنا في عدن، نتنفس الصعداء أخيراً، لقد ولّى شبح الصيف اللاهب، وحلّت أجواء معتدلة تخفف من وطأة شمس كانت كافية لحرق الجيوب قبل الجلود؛ هذا التحول الموسمي، من حمم حرارة قياسية إلى برودة نسبية، يفتح فصلاً جديداً، لكنه يفرض علينا سؤالاً لا يمكن تأجيله: ما هو الثمن الباهظ الذي دفعه اقتصادنا المحلي وحياة كل فرد عامل جراء موجة الحر الماضية؟

يستعرض هذا التقرير، بالاستناد إلى دراسات علمية وتحليلات اقتصادية، الأضرار المتراكمة التي تهدد بتثبيت الفقر في المدينة الساحلية.

الحقيقة العلمية: سرقة الإنتاجية في الظهيرة

تؤكد الأبحاث العلمية العالمية أن الأداء الاقتصادي البشري لا يتحقق بالصحة إلا في المناخ المعتدل، حيث تشير إحدى الدراسات المرجعية إلى أن 13 درجة مئوية هي النقطة الذهبية للإنتاجية العالمية [1]، وبمجرد أن ترتفع الحرارة كثيراً فوق هذا المعدل، كما حدث في صيف عدن، فإنها تبدأ في خصم ساعات العمل وتشويه جودة الإنتاج.

لقد عايشنا في الصيف الماضي كيف تراجعت كفاءة القوى العاملة يوماً بعد يوم؛

عمال الموانئ والبناء والأعمال التي تحتاج مجهوداً جسدياً كانوا يواجهون فقداناً حاداً في قدراتهم الجسدية على الإنجاز، مما يعني خسارة فعلية في الأجر اليومي والإنتاجية الإجمالية للمدينة.

القدرات الذهنية لم تسلم أيضاً؛ فقد أدت الحرارة الشديدة إلى تراجع في التركيز واتخاذ القرارات السليمة، وهو ما أثر على كفاءة الأعمال المكتبية والتجارية.

كلفة الإغلاق: خسائر المنشآت الصغيرة غير المعلنة

تضاعف تأثير الحرارة بانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، مما وجه ضربة قاصمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تُعد شريان الحياة الاقتصادي لـ عدن.

تشير التقديرات إلى أن القطاعات التي تعتمد على التبريد والاستقرار الكهربائي (مثل المطاعم، محلات العصائر، وبعض الخدمات التقنية) وغيرها شهدت ارتفاع تكاليف التشغيل بنسبة تتراوح بين 40% و60% بسبب الاعتماد الكلي على شراء الوقود للمولدات.

والكثير من المشاريع الصغيرة تعرضت لإغلاق جزئي أو كلي، خاصة تلك التي لا تستطيع تحمل نفقات الوقود اليومية أو تكلفة شراء منظومات طاقة شمسية، مما أدى إلى فقدان مصادر دخل لآلاف الأسر.

إن الخسائر الكلية التي تعرضت لها المنشآت والمشاريع الصغيرة بسبب موجة الحر وانقطاع الكهرباء لم تُصدر فيها إحصائيات رسمية شاملة، لكنها تُقدر بملايين الريالات، وهي خسائر تتراكم لتثقل كاهل الأفراد والاقتصاد المحلي.

الخطر الاجتماعي: الحرارة تعمّق الفقر وتزيد الفوارق

هذه الخسائر لا تؤدي فقط إلى تدهور اقتصادي، الأخطر من ذلك هو أن موجة الحر لم تكن مجرد نكبة مؤقتة، بل هي محرك صامت لتعميق الفوارق الطبقية.

تُظهر الأبحاث [2] أن الحرارة الشديدة تشجع الشركات على التخلي عن الأيدي العاملة لصالح الآلات (رأس المال)، حيث يصبح العمل البشري أقل كفاءة مقارنة بالآلة التي يمكن تبريدها؛ هذه الآلية تضاف إليها واقعة جديدة في عدن! أن قدرة الأسر الميسورة على شراء المنظومات الشمسية لضمان التبريد واستمرارية العمل، في حين أن الأغلبية العظمى لا تستطيع مجرد التفكير في التكلفة الباهظة لهذه المنظومات، هذا الانقسام في القدرة على تأمين الطاقة يترجم مباشرة إلى زيادة الفجوة الطبقية وتثبيت الفقر، ويجعل الفوارق الاجتماعية أكثر وضوحاً.

الحلول: حماية المواطن من خصم المناخ

إن فترة الهدوء المناخي الحالية هي فرصتنا للتخطيط.. لمواجهة هذا الخصم المناخي، يجب على الاستجابة أن تكون شاملة، تعتمد أولاً على مسؤولية الدولة في توفير الأساسيات، ثم تمكين المجتمع من الحلول المستدامة:

أولاً: واجب الدولة.. إنقاذ الفئات الهشة

نظراً للوضع الاقتصادي الهش وعدم قدرة الأغلبية على شراء حلول الطاقة المستدامة، تبرز مسؤولية الدولة والمؤسسات في:

1- استقرار شبكة الكهرباء العامة: يجب أن يكون الهدف الأول هو إعادة تأهيل وتثبيت شبكة الكهرباء العامة لضمان توفير خدمة التبريد الأساسية لأكبر قدر ممكن من السكان في الصيف.

2- الرقابة على أسواق الطاقة الشمسية: تفعيل الرقابة على الأسعار الغالية والتكلفة الباهظة للمنظومات الشمسية، والعمل على ضمان جودتها ومنع الغش التجاري، لتمكين الفئات الأقل دخلاً من الاستثمار فيها بأمان.

3- برامج التمويل المُيسَّر: إنشاء صناديق تمويل أو قروض صغيرة مدعومة بفائدة منخفضة جداً، بالشراكة مع البنوك والجهات التنموية، لتمكين الأسر ذات الدخل المحدود من شراء أنظمة الطاقة الشمسية على أقساط مريحة، مما يجعل الحل المستدام عادلاً ومتاحاً.

4- تعديل السياسات العمالية: تطبيق سياسات عمل مرنة في الصيف تقتضي تعديل ساعات العمل للوظائف الخارجية الشاقة، للحفاظ على صحة العمال ورفع كفاءة الإنتاج.

ثانياً: التحول نحو "الدرع الشمسي"

بعد توفير الأساسيات، يأتي دور الحل المستدام؛ حيث يبرز دور الطاقة المتجددة (الشمسية) كحل استراتيجي فردي ومؤسسي لتقليل الاعتماد على الوقود الباهظ، مما يضمن استمرارية الإنتاجية ويساعد على تحرير جزء من دخل الفرد من فواتير الكهرباء.

الهدنة قصيرة.. والعمل الآن

إن الأجواء الباردة الحالية في عدن ليست سوى هدنة مؤقتة؛ إنها تذكير بأن التحدي الاقتصادي الأكبر هو تأمين الطاقة المستدامة.

لذا، يجب أن يكون واجب الدولة في توفير واستقرار شبكة الكهرباء العامة لجميع المواطنين، إلى جانب التحول نحو الطاقة المستدامة بآليات تمويل عادلة، هو ركيزة التخطيط للمستقبل، لحماية جيب المواطن من الخصم الذي تفرضه حرارة عدن القاسية في كل قادم.

الهوامش والمصادر:

[1] دراسة منشورة في مجلة "نيتشر" (Nature) عام 2015 حول العلاقة غير الخطية بين المناخ والناتج الاقتصادي العالمي.

[2] دراسات حديثة في مجلات اقتصاد الطاقة (Energy Economics) تشير إلى أن ارتفاع الحرارة يؤدي إلى تراجع حصة العمل من الدخل القومي (Labour Share) لصالح رأس المال.