عدن الغد/ د. الخضر عبدالله:
في هذا النص المطوّل، يروي الرئيس الأسبق علي ناصر محمد رئيس الجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، شهادته التاريخية حول موقف القيادة الشرعية من الوحدة اليمنية، قبل 22 مايو 1990 وبعده، وما رافق تلك المرحلة من أحداث فاصلة، مثل حرب 1979، وأحداث يناير 1986.
وفي شهادة تاريخية نادرة، كشف الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد عن تفاصيل لقاء امتد لسبع ساعات جمعه بالرئيس الراحل علي عبد الله صالح، والعقيد علي محسن الأحمر، وذلك في أجواء سياسية مشحونة عام 1989م، سبقت إعلان الوحدة اليمنية، كشف عن كثير من كواليس الأحداث التي صنعت المشهد اليمني في أواخر الثمانينيات. امتد اللقاء لساعات طويلة، كُشف فيه عن مواقف وتحالفات، وتبادل صريح لوجهات النظر حول المصالحة، الوحدة، والخلافات التاريخية.
ينقل الرئيس ناصر في هذا السرد شهادته الكاملة، متناولاً الشخصيات المؤثرة، والأحداث الدقيقة، في حوار صريح ومكاشفة نادرة مع رموز النظام الحاكم آنذاك. وإليكم النص..
القيادة الشرعية والحلم اليمني: موقفها من الوحدة قبل 22 مايو 1990 وما بعده
في شهادته التاريخية، يُبرز الرئيس ناصر أن الحزب الاشتراكي منذ تأسيسه عام 1978، وضع الوحدة في صلب برنامجه السياسي، ورأى فيها هدفًا نهائيًا لا حياد عنه. ومع ذلك، لم تكن كل الأطراف داخل الحزب على قلب رجل واحد، فقد كانت هناك أصوات متطرفة تؤمن بأن الطريق إلى الوحدة لا يمر عبر الحوار، بل عبر "السلاح وتصفية الرموز الرجعية"، في إشارة إلى بعض القوى القبلية والدينية في شمال اليمن. هذه الأصوات، كما يشير ناصر، هي من دفعت باتجاه حرب فبراير 1979 بين الشطرين، ووقفت لاحقًا عائقًا أمام أي جهود سلمية لتحقيق الوحدة.
ويضيف:"بعد أحداث يناير 1986 المأساوية، وما أعقبها من تفكك في بنية النظام في عدن، برزت القيادة الشرعية كمحور بديل يدعو إلى وحدة تقوم على المصالحة الوطنية، والاستناد إلى مشروع دستور دولة الوحدة الذي تم التوقيع عليه في 31 ديسمبر 1981، لكن تم تجاهله لاحقًا من قبل بعض الجهات، خاصة في عدن، لأسباب تتعلق بتوازنات القوى وتضارب المصالح.
يشير ناصر إلى جهود جبّارة بذلتها القيادة الشرعية بين عامي 1980 و1985، تمثلت في خطوات عملية نحو الوحدة: صياغة الدستور، استكمال القوانين المنظمة للدولة الموحدة، إنشاء المجلس اليمني الأعلى، وتنفيذ مشاريع مشتركة في مجالات الطرقات، الكهرباء، السياحة، والنقل. لكن الأهم، بحسب تعبيره، كان استعادة الثقة بين القيادتين في الشمال والجنوب، وهو ما شكّل قاعدة صلبة لأي تقدم وحدوي.
وقال:"مع ذلك، فإن تدهور الوضع الداخلي في الجنوب بعد أحداث 1986، دفع القيادة الشرعية إلى الدخول في حوارات جديدة، كان أبرزها ما جرى في صنعاء، بدعوة من الرئيس علي عبد الله صالح، وبترتيب مباشر من العقيد علي محسن الأحمر، الرجل القوي في منظومة الحكم آنذاك. يشير ناصر إلى أن علي محسن لعب دورًا محوريًا في فتح باب الحوار، بالنظر إلى تأثيره الواسع داخل الجيش والأجهزة الأمنية، وكذلك قربه من مراكز القرار.
لقاء السبع الساعات
وفي لقاء امتد لسبع ساعات تحدث الرئيس علي ناصر بصراحة نادرة مع الرئيس علي صالح حيث عرض عليه خريطة واضحة لتحقيق الوحدة اليمنية وقال الرئيس ناصر حول هذا اللقاء:" كان عليّ أن أنتظر اللقاء بالرئيس صالح حتى انتهاء الاحتفالات التي شارك فيها كل من الرئيس المصري والرئيس العراقي وملك الأردن والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. بدأت لقاءاتي التمهيدية مع الدكتور الإرياني، وزير الخارجية، الذي نصح بعدم التحدث عن مواقف الرئيس والخلافات بيني وبينه، ونصح أيضاً باللقاء مع العقيد علي محسن أولاً، لأنه يحترمني ويثق بي، كما قال، وثانياً، باعتباره مؤثراً على الرئيس علي عبد الله صالح آنذاك، لأنه مارس دوراً مهماً في إحباط انقلاب الناصريين عام 1978م، وكذلك نظراً لدوره المهم بعد مقتل الغشمي في السيطرة على صنعاء في مرحلة الارتباك والفوضى التي مرّ بها النظام، حيث سيطر على المعسكرات وعلى مقارّ السلطة، وهى أدوار اعترف بها العقيد علي محسن في لقاءاتي الخاصة معه في صنعاء، وكان يشرح كيف أنه سيطر على العاصمة صنعاء بعد مقتل الغشمي، وهو ضابط مسرَّح، وأحبط انقلاب الناصريين بقيادة العقيد نصار حسن علي في 15/10/1978م، عندما طلبوا منه تسليم نفسه وتسليم معسكره، فقال لهم إنه جاهز وإنهم أخوة ويجب ألّا تسيل قطرة دم، وطلب فرصة ليسحب أوراقه وملابسه، فسمحوا له بذلك، وانتظروا عودته، وإذا به يجري اتصالاته ويعطي تعليمات للقوات المدرعة بالتحرك لاحتجاز الانقلابيين. وفوجئ الانقلابيون بتحرك الدبابات، وهرب الناصريون وجرت ملاحقتهم في صنعاء وحول الإذاعة حتى هربوا خارجها واستولى على العاصمة للمرة الثانية. ولهذا فإن الرئيس يدين له بهذين الموقفين اللذين مكّناه من السلطة والحفاظ عليها، بينما كان الرئيس أثناء الحادثين في حزيران/ يونيو عام 1978م، وتشرين الأول/ أكتوبر 1978م، في مدينة تعز.
محسن شريك في السلطة
ويسرد الرئيس ناصر حديثه قائلا:"وبذلك أصبح علي محسن شريكاً في السلطة وأحد أعمدتها وصاحب قرار مؤثر، سواء أكان حاضراً أم غائباً، ولم يكن الرئيس يستطيع تجاهله، وقد تمتع بصلاحيات واسعة وإمكانات كبيرة، وهو متغلغل بعناصره داخل الأحزاب وبين أوساط القبائل والمعسكرات، وقد رفض أن يتحمل أية مسؤوليات عليا في الجهاز العسكري أو المدني حتى لا يكون في واجهة الأحداث، واكتفى بدوره خلف الكواليس، وكان أقوى من رؤساء الحكومات ونواب الرئيس ومجلس الشورى، ويقف وراء تشكيل كل حكومة، ووراء أي ترتيبات في السلطة. كان لي صديقاً وفيّاً منذ وصولي إلى صنعاء، عرفته وخبرته عبر لقاءات عديدة، رغم أنّ البعض كان يحذرني منه. إنه شخص ذكي، ومن الصعب أن تقيس أعماقه.
ويواصل الرئيس ناصر حديثه:" قابلتُ علي محسن لعدة ساعات، ناقشنا خلالها الحاضر والمستقبل. شرحتُ له الخلاف وأزمة الثقة بيني وبين الرئيس، وقلتُ له إنّ حلّ الأزمة يكمن في تحقيق الوحدة اليمنية بعدما رفض حكام عدن المصالحة الوطنية، وقلتُ إنّ الرئيس جمّد العمل بما جاء في ورقة العمل التي وقّعناها معه، وأغلق الإذاعة ورفض تسليح قواتنا في المعسكرات بالسلاح الذي قدمه إلينا القذافي، ولم يبقَ لنا أي شيء غير الأكل والشرب وتبادل الشائعات والبلبلة أثناء مضغ القات، وأصبحنا قوة لا يستفاد منها، بل إنّ مجاميعنا تحولت إلى عبء مالي وسياسي عليهم. وفي نهاية حديثي معه، قال: "إنني معكم، وسنقنع الرئيس بالوحدة اليمنية على أساس الدستور الذي أُنجز في أيامكم، سواء مع حكام عدن أو معكم، وعلى الرئيس أن يختار بعد أن رفض حكام عدن المصالحة الوطنية". وفي ضوء ما اتفقنا عليه في 29 أيلول/ سبتمبر 1989م، رتب لقائي مع الرئيس علي عبد الله صالح في اليوم التالي، حيث تناولنا الغداء معاً، ثم انتقلنا إلى "المفرج" الذي يطلّ على صنعاء من القصر الجمهوري ، وهو من القصور التي بناها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، حيث لم يدخله ويتمتع به، وسُمّي حينها قصر الوصول، ولكنه لم يصل إليه بسبب مرضه ووفاته وقيام الثورة في 1962م. ومع الأسف، فقد دمّر في الحرب على اليمن عام 2017م. كانت إطلالته جميلة، والأراجيل منتصبة في انتظار التبغ والنار.
لحظات التوتر
يظهر اللقاء بلحظات توتر ومصارحة، بين الرئيس ناصر وصالح حيث قال ناصر:" قلت للرئيس صالح وبعد دردشة قصيرة، كما هي عادة المخزّنين، سألني الرئيس: سمعتُ أنك حرد مني وقد غبت سبعة أشهر منذ إغلاق الإذاعة في مارس 1989م، والكلام والهذر في الإذاعة لا فائدة منه، ونحن بحاجة إلى العمل اليوم أكثر من الكلام، وقد كنت مستاءً كثيراً من دخول اليمن في مجلس التعاون العربي الذي هو قوة لنا جميعاً، سواء على صعيد اليمن والمنطقة، أو على الصعيد العربي والدولي. وقال إنّ الشيخ زايد بن سلطان مرتاح من هذا المجلس للضغط على دولة عربية خليجية حتى إزالتها، لأنها قامت على أرض غير أرضها، وشعب غير شعبها، وأيضاً للضغط على إيران، وحتى على سلطنة عُمان، ونحن قلنا له إنّ قواتنا تحت تصرفه إذا تعرض للخطر من هذه الدول، وضحك! وعلّق: والشيخ زايد صَدّق! المهم أن نستفيد من الجميع. وقال إنه مرتاح لمشاركة صدام ومبارك والحسين في الاحتفالات، وإنّ زيارتهم قوة لليمن وللوحدة التي ستتحقق بإذن الله قريباً. شعرتُ من حديثه بأنّ العقيد علي محسن قد تحدث معه بما دار بيننا، وقال: نشتي نسمع منك أيها الرفيق الأمين العام أخبارك وهمومك وحتى غضبك منا. وكان يردد في كل أحاديثه كلمة الرفيق الأمين العام، ليذكرنا باستخدام كلمة رفيق في محادثاتنا ومخاطبتنا فيما بيننا في عدن، بعكس ما يخاطبونه بـ"فخامة الرئيس". قلت له: أولاً عندي مطلب واحد، هو أن تسمح لي بالحديث لمدة ساعة، وأن لا تقاطعني ولا تنقلني من موضوع إلى آخر، كما هي عادتك عندما تريد التخلص من أيّ موضوع أو حديث بطريقة ماكرة وذكية.
المصارحة بين ناصر وصالح
وزارد الرئيس ناصر في حديثه :"قلت لصالح: لا نريد كلاماً كثيراً، نريد أن نتحدث ونطعم القات والمداعة والمناظر الجميلة. وأضاف: أنتم في عدن أصبحتم تحولون مجالس القات إلى مجالس سياسية للتآمر! وأضاف: أما نحن، فنجلس للدردشة والحديث عن الشعر والأدب والتاريخ والغناء والتسلية، وقد خرّبتم كثيراً من عادات جلسات القات، فقد علمتمونا شرب القهوة اليمنية بالسكر (ما يسمى قهوة المزغول)، وكذلك شرب الكولا وغسل القات قبل تناوله، ما يفسد طعمه بدلاً من التلذذ بمسح الورق باليد وطعم التراب الذي يعلق بالورق. قلت: أنا ما زلت عند مطلبي بأن تستمع، وبعدها تقول رأيك، وأنا جاهز للحديث معك بقلب مفتوح، ومع الأخ علي محسن الذي أتعبناه بمشاكلنا. قال: تفضل. قلت: سأبدأ الحديث من يناير 1986م، وحتى الآن.
(للحديث بقية)