في تاريخ دلتا أبين، تظل سيرة العاقل محسن بن حسن عبيد جابر المنصري علامة بارزة لا تُمحى. لم يكن مجرد شيخ قبيلة أو رجل إدارة، بل زعيم شعبي حقيقي جمع بين الزعامة القبلية والدور الإداري والمكانة السياسية. وحين وقفت القبائل في وجه الاستعمار البريطاني عام 1948م، كان المنصري في مقدمة الصفوف، فصار اسمه رمزًا للكرامة والصمود.
المناصب والمسؤوليات
لم يكن المنصري عاقل منطقة الرواء فقط، بل تقلّد عدة مناصب بارزة في سلطنة يافع بني قاصد، منها:
/مدير الداخلية في سلطنة يافع بني قاصد.
/عضو مجلس السلطنة.
/نائب السلطان في بعض الفترات.
/عاقل منطقة الرواء والمسؤول عن تنظيم العلاقات القبلية وحل النزاعات.
هذه المناصب أكسبته نفوذًا واسعًا وجعلت منه مرجعًا اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا على مستوى دلتا أبين وما حولها.
شرارة الانتفاضة
حين فرض الاستعمار البريطاني "ضريبة العُشر" على القبائل، كان الرد من المناصر، وكلد، وآل حمه، وآل يوسف، ورها، وآل سعيد بالرفض القاطع.
ومع وصول قوات "الجيش الليوي" لانتزاع العشر بالقوة، اندلعت معركة الرواء – عرشان، حيث سقط شهداء من أبناء القبائل، فيما تكبدت القوات البريطانية خسائر كبيرة في الأرواح. كانت تلك المعركة أول انتفاضة مسلحة ضد الجبايات الاستعمارية، وأثبتت أن الكرامة أغلى من المال.
لماذا سُجن في أمقليته؟
بعد المعركة، اعتقل البريطانيون العاقل محسن حسن المنصري. لكنهم لم يضعوه في سجن البحرين بجعار ولا في سجن عدن لسببين رئيسيين:
في جعار، كان الخوف من اقتحام رجال كلد والمناصر للسجن وتحرير شيخهم.
في عدن، كان البريطانيون يدركون أن المنصري قد يتحول إلى رمز سياسي وشعبي يُلهِم الناس هناك فالانكليز يملكون الدهاء السياسي ويعرفون وزن العاقل محسن حسن المنصري فكان الحل هو سجنه في أمقليته دثينه بمودية منطقة نائية، وعرة، وبعيدة عن أنصاره، حيث قضى عامين كاملين خلف القضبان.
السجن الذي زاده قوة
لم يكن سجنه كسرًا لإرادته، بل محطة زادته صلابة. كبار السن ما زالوا يروون:
"إذا لم يخف المنصري من مدافع الإنجليز، فهل سيخيفه حديد السجن؟"
"المنصري في السجن كان حرًا أكثر من سجانيه."
تحوّل اسمه إلى أسطورة شعبية، وتردد ذكره في المجالس كرمز للتضحية والفداء.
بصماته الثقافية والإعلامية
لم يقتصر دور العاقل محسن حسن المنصري على السياسة والقبيلة فقط، بل امتد إلى الثقافة والإعلام. فقد كان من أوائل الداعمين لمجلة يافع التي صدرت في جعار خلال ستينيات القرن الماضي، كما ساهم في إنشاء أول دار عرض سينمائي في المدينة عندما كانت عاصمة السلطنة. هذه الخطوات عكست رؤيته المتقدمة، وإيمانه بأن الثقافة ركيزة أساسية لبناء وعي مجتمعي متين.
إرث خالد
لم يكن سجن أمقليته عقابًا، بل وسام شرف على صدر العاقل محسن المنصري. فقد ضحى بنفسه ليجنيب قريته وأهله ويلات حرب غير متكافئة، وواجه الاستعمار بشجاعة نادرة.
واليوم، وبعد أكثر من سبعين عامًا، تبقى معركة الرواء – عرشان شاهدًا حيًا على زمن الرجال الأوفياء، وتبقى سيرة العاقل محسن حسن المنصري رمزًا للقيادة الحكيمة والكرامة التي لا تُشترى.
يقول أهل دلتا أبين إلى اليوم:
"كان محسن المنصري رجلًا إذا مشى، مشت الكرامة معه، وإذا تكلم، تكلمت الحقيقة على لسانه."
"ترك لنا إرثًا لا يزول، وسيرةً يتغنى بها الأجيال، لأنه اختار أن يكون حرًا في زمنٍ باع فيه كثيرون أنفسهم."
وهكذا، يبقى المنصري واحدًا من أولئك الرجال الذين كتبوا تاريخ الجنوب بدمائهم ومواقفهم، ليظل حاضرًا في ذاكرة الأجيال، شاهدًا على أن الكرامة لا تُسجن.
رحم الله العاقل محسن حسن المنصري واسكنه فسيح جناته