كتب/د. الخضرعبدالله:
"ما فيش فلوس أشتري بها روتي وجبن في المدرسة"، بهذه الكلمات عبّر الطفل أحمد، ابن معلم في إحدى مدارس عدن الحكومية، عن معاناته اليومية. أحمد، في العاشرة من عمره، لا يجد بيديه غير الحزن الذي يرافقه إلى الصف كل صباح، إذ لا يستطيع شراء وجبته المدرسية أو حتى أدواته البسيطة مثل القلم والدفتر.
أزمتهم ليست فردية
قصة أحمد ليست استثناءً، بل هي واقع يعيشه آلاف الأطفال في عدن، وأغلبهم أبناء معلمين يعملون في ظل ظروف مالية صعبة. تقول الأستاذة نادية، معلمة في مدرسة 30 توفمبر في مديرية الشيخ عثمان بعدن: "راتبنا متأخر لثلاثة شهور، ومعظمنا يعيش على الحافة. أطفالنا لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة دون أن يجدوا بعض المصروف لشراء أبسط الأشياء، وهذا يؤثر على تركيزهم وتحصيلهم العلمي."
تتابع نادية: "هناك عائلات دفعت ثمن الدراسة، لكنها لم تستطع توفير مصروف اليومي لأبنائها. بعض الأطفال يضطرون للبقاء في المنزل أو يذهبون جائعين، وهذا يؤثر على روحهم المعنوية ودراستهم."
شهادات حية.. أطفال بلا وجبات
في إحدى مدارس العاصمة عدن، تروي المعلمة "أم عارف" بحرقة وهي تمسح دموعها:
"ابني في الصف الرابع، خرج اليوم إلى المدرسة بدون فطور، وبدون ريال واحد. قال لي: ما عليش ماما، أرجع أكل لما أرجع. حاولت أكتم دمعتي قدامه، لكني شعرت أني خذلته كأم، وكمعلمة أيضًا."
ولا تختلف قصة أم حسام عن عشرات القصص الأخرى. فالأستاذ "محمد ن."، معلم مادة العلوم في إحدى المدارس الحكومية، يقول إنه لم يستطع شراء حقيبة مدرسية جديدة لابنته هذا العام.
وقال"ما قدرت أشتري لابنتي حقيبة جديدة، خيطت لها القديمة رغم تمزقها. لا نستطيع حتى توفير مصروفها اليومي، فكيف بالكتب والمستلزمات؟"
ويتابع بصوت متهدج:
"طفلتي تبكي إذا رأت زميلاتها يشترين من مقصف المدرسة، بينما تعود هي كل يوم بجيب فارغ وبطن جائع. هل هذا هو جزاء من أفنى عمره في التعليم؟"
الجوع يؤثر على التحصيل العلمي والنفسي للأطفال
تؤكد دراسات تربوية أن الجوع وقلة الموارد تؤثر سلبًا على التحصيل الدراسي للأطفال، وترفع معدلات التسرب من المدارس. في عدن، حيث المدارس الحكومية تشكل الغالبية، يُصبح الوضع أكثر هشاشة بسبب ضعف الدعم الحكومي والإغاثي.
الأستاذة أمينة، مشرفة تربوية في إحدى مدارس الشيخ عثمان تقول: "رأينا الكثير من الطلاب الذين يعانون من مشاكل نفسية بسبب الفقر والجوع، وهذا يؤثر على مستواهم الدراسي بشكل مباشر. بعضهم يشعر بالإحباط ويبدأ في الانسحاب تدريجيًا."
ظروف اقتصادية صعبة تضع المعلمين وأبنائهم في دائرة الأزمة
يواجه المعلمون في عدن ظروفًا اقتصادية صعبة تتفاقم بسبب الأزمة الوطنية التي أدت إلى تدهور العملة وتوقف الرواتب لفترات طويلة. وفقًا لإحصائيات غير رسمية، فإن أكثر من 70% من المعلمين في عدن لم يتلقوا رواتبهم كاملة خلال العامين الماضيين، مما جعل عائلاتهم تواجه نقصًا حادًا في الموارد المالية.
الأستاذ محمد ، معلم مادة العلوم ، يقول: "رواتبنا بالكاد تكفي للمعيشة، وكأننا نكافح من أجل البقاء، فكيف لنا أن نوفر لأولادنا المصروف اليومي؟ الأمر أصبح كارثيًا."
تضيف زوجته، التي تعمل أيضًا معلمة، "أبناؤنا يروننا نتعب ونحاول أن نؤمن لهم كل شيء، لكن الواقع يجعلنا عاجزين. أحيانًا نضطر لإرسالهم إلى المدرسة وهم جائعون."
جهود ذاتية من غ المصروف، أو شراء الأطعمة الأساسية لتوزيعها على الطلاب المحتاجين. لكن هذه الجهود تبقى محدودة وغير كافية.
الأستاذ معتصم، معلم رياضيات، يوضح: "قمنا بتشكيل مجموعات دعم صغيرة داخل المدرسة لجمع تبرعات، لكن الأعداد كبيرة والاحتياجات أكبر."
دعوات للحكومة والمنظمات الإنسانية
تؤكد مصادر تربوية ومجتمعية في عدن أن الأزمة التي يعاني منها أبناء المعلمين تستدعي تدخلا عاجلا من الحكومة والجهات الإنسانية، من خلال دعم المعلمين وتحسين ظروفهم المعيشية، وتأمين مساعدات للطلاب المحتاجين.
في هذا الصدد، يقول أحد المسؤولين في وزارة التربية والتعليم بعدن (طلب عدم ذكر اسمه): "نعلم حجم الأزمة، ونعمل على خطط عاجلة لدعم المعلمين وأبنائهم، لكن الإمكانيات محدودة في ظل الظروف الحالية."
نداء عاجل.. أين الضمير الإنساني؟
إن استمرار انقطاع رواتب المعلمين لا يعني فقط تهديد مستقبلهم المعيشي، بل هو تهديد مباشر للمستقبل التعليمي للبلاد بأكملها.
عندما يُجبر أبناء المعلمين على الذهاب إلى مدارسهم دون مصروف أو وجبة، وعندما يشعر الطفل بأن والده المعلم لا يستطيع منحه شيئًا، فإننا ندفع بثمن قاسٍ ستتحمله الأجيال القادمة.
ينبغي على كل الجهات المعنية، محلية أو دولية، أن تُعيد النظر في هذه الكارثة المستمرة، وأن تدرك أن إهمال المعلم هو إهمال للوطن كله.
فهل من مستجيب؟