آخر تحديث :الخميس-21 أغسطس 2025-12:13م
إقتصاد وتكنلوجيا

رسوم ترامب تكشف ضعفًا في ركائز استقلال الاقتصاد السويسري

الخميس - 21 أغسطس 2025 - 09:37 ص بتوقيت عدن
رسوم ترامب تكشف ضعفًا في ركائز استقلال الاقتصاد السويسري
(عدن الغد): متابعات خاصة


نادرًا ما تتعرض سويسرا لأزمات النزاعات التجارية العالمية، ومن النادر جدًا اتخاذ إجراءات عقابية ضدها، من قبل شريك تجاري رئيسي. لكن ما حدث في بداية هذا الشهر كان استثناءً. إذ بدأت الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية تصل إلى 39% على معظم الصادرات السويسرية، بعد انتهاء فترة انتظار امتدت سبعة أيام.


فاقت الرسوم الجمركية على سويسرا، ضعف رسوم الإدارة الأمريكية المفروضة على الاتحاد الأوروبي. وجاءت، أيضًا، أعلى بكثير من المعدلات المفروضة على بريطانيا، بل وحتى على كندا. وهكذا، كانت الرسوم الجمركية المفروضة على سويسرا، الأعلى من بين البلدان المتقدمة.


وعلى وقع هذه التطورات، تجتاح البلاد موجة من الجدل والاتهامات المتبادلة، بينما ترسم الحكومة خريطة لتحركاتها القادمة. وقد تعهّدت برن، الأسبوع الماضي، بمواصلة الحوار مع واشنطن.


ومؤخرًا، حظي هذا البلد، البالغ عدد سكانه تسعة ملايين نسمة، والمعتمد على التصدير، بتغطية إعلامية دولية واسعة، قلَّما حظي بها، لا سيَّما في المجال التجاري.


وحيدة على خطِّ المواجهة

لم تكمن المفاجأة في إجراءات الولايات المتحدة. فلم يسلم من الرسوم الجمركية، المتصدرة لأجندة ترامب الاقتصادية، سوى بلدان قليلة. وسويسرا، تحديدًا، كانت هدفًا محتملًا منذ فترة؛ إذ سجَّلت عام 2024، فائضًا تجاريًَا مع الولايات المتحدة، بقيمة 48،5 مليار فرنك سويسري (60 مليار دولار)، وفي العام نفسه، لم تستورد سوى كميات محدودة من المنتجات الأمريكية.


لكن توقّعت قلة في برن، أن يكون الإجراء بهذه القسوة. فقد شملت الرسوم الثابتة بنسبة 39% معظم أنواع المنتجات، مع استثناءات محدودة. ونتيجة لهذه الاستثناءات، وتحديدًا على الذهب والمنتجات الصيدلانية، يبلغ متوسط الرسوم الفعلي نحو 12%. ومع ذلك، لحقت أضرار فورية بصادرات قطاعات رئيسية، مثل الساعات، والآلات، والأدوات الصناعية، والشوكولاتة.


غير أن هذه الاستثناءات ليست واضحة تمامًا. فرغم الإعلان عن إعفاءات كبيرة لصادرات الذهب، كشفت صحيفة فايننشال تايمز (FT) الأسبوع الماضي، فرض الولايات المتحدة رسومًا على واردات سبائك الذهب من زنة كيلوغرام واحد، ما وجّه ضربة جديدة لسويسرا، أكبر مركز لتكرير الذهب في العالم.


أمَّا سبب الاهتمام الكبير بهذه الإجراءات، فهو أن سويسرا تبدو وحيدة في مواجهتها؛ إذ تفاوض الاتحاد الأوروبي على معدل متوسط يبلغ 15%، بينما حصلت المملكة المتحدة على 10%. وحتى تايوان، التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على التجارة مع الولايات المتحدة، وتعيش وضعًا دبلوماسيًا هشًّا، نجحت في وضع سقف عند 20%، مع وعد بتطبيق استثناءات، على نحو تدريجي.


فإذن، لماذا تُستهدف سويسرا وحدها؟


هشاشة هيكلية

صحيح أن سويسرا حققت العام الماضي فائضًا تجاريًّا ملحوظًا مع الولايات المتحدة. لكنها، في الوقت نفسه، ألغت فعليًّا جميع الرسوم الجمركية على السلع الصناعية منذ يناير 2024. ويعود معظم الفائض إلى صادرات الذهب، والمنتجات الصيدلانية، وهو فائض مُضخَّم، بسبب تخزين الشركات للبضائع، في وقت سابق من العام. بل تظهر البيانات الأمريكية انقلاب الميزان التجاري الثنائي لصالح الولايات المتحدة في أبريل ومايو، عند تراجع الشركات عن تخزين الإمدادات الطارئة.


ووفقًا لبعض الشخصيات المسؤولة في برن، لا تتعلّق المسألة بما فعلته سويسرا، بل بما لا تستطيع فعله.


فتتفاوض سويسرا من منطلق واقعي، يحدِّده نظامها المؤسسي. وتقدّم حكومتها عروضًا قابلة للتنفيذ، غالبًا، ضمن حدودها السياسية والدستورية. ولكنها لا تستطيع تقديم وعود سياسية كبيرة، كتلك التي تطلقها جهات فاعلة ضخمة، كتعهّد الاتحاد الأوروبي باستثمار 750 مليار دولار في قطاع الطاقة الأمريكي.


ويتفق هانز بيتر بورتمن، المصرفي والسياسي في مجلس الشيوخ السويسري، مع هذا الرأي. ويقول: “لسويسرا سمعة في الوفاء بالتزاماتها، لكن قد يكون ذلك نقطة ضعف في عالم يكافئ الدراما والطموح… وتبرز هذه المشكلة عند التعامل مع ترامب”.


كذلك، تحدّ خصائص الهيكلية السويسرية من فعالية عملها الدبلوماسي؛ إذ تضمُّ الحكومة الفدرالية سبعة أعضاء برئاسة تناوبية، وآليات ديمقراطية مباشرة قد تفرض استفتاءات على قضايا محورية، وتقاليد حياد تقلّص النفوذ الجيوسياسي.


ويضيف بورتمن: “ليس بإمكان الرئيس.ة السويسري.ة التفرُّد بتقديم وعود استثمارية بقيمة 30 مليار دولار، أو فتح الأسواق الزراعية دون المخاطرة بردود أفعال سياسية داخلية، أو استفتاء. ولا تستطيع الحكومة التعهّد باسم القطاع الخاص كما تفعل دول أخرى”.


وخلافًا للاتحاد الأوروبي، أو اليابان، تفتقر سويسرا إلى سوق يتيح ردًا مؤثرًا، ولا تملك أوراق ضغط كالتعاون الدفاعي، أو تكامل أسواق الطاقة. كما جعلها تمسّكها بنموذجها الاقتصادي، أو عدم قدرتها على تركه، بلا مخرج واضح من المأزق الحالي.


وعلّق الكاتب سام لوو، في مقال نشرته صحيفة فايننشال تايمز مؤخّرًا: “سويسرا… لم ترتكب خطأ حقيقيًا، لكنها باتت درسًا تحذيريًا لكل جهة لا تزال تتفاوض مع الولايات المتحدة”.


مجال مناورة ضيِّق

ويبقى السؤال: ما هي خيارات سويسرا اليوم؟


على الصعيد الداخلي، الخيارات محدودة، وقد تُثير جدلًا سياسيًّا؛ إذ يمكن لسويسرا اقتراح استثمارات مباشرة في مناطق صناعية أمريكية، مقابل إعفاءات جمركية. ولكن تكمن المشكلة في غياب الآليات، التي تسمح للحكومة بتقديم استثمارات خاصة نيابة عن الشركات.


ومن الأفكار المطروحة أيضًا، زيادة مشتريات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة. لكن تفتقر سويسرا للبنية التحتية اللازمة للاستيراد، وتستهلك كميات ضئيلة من الغاز؛ ولذلك، يكون أي اتفاق بهذا الشأن رمزيًا للغاية.


واقعيًا، يمثل الإنفاق الدفاعي ورقة ضغط ناجعة؛ إذ تشتري سويسرا بالفعل طائرات مقاتلة من طراز F-35 من الولايات المتحدة، ويمكن أن يشمل التفاوض المستقبلي توسيع الصفقة أو إلغائها، وقد اقترحت شخصيات سياسية سويسرية غاضبة إنهاء هذه الصفقة، التي تتجاوز قيمتها 9 مليارات دولار. ومن الخيارات الواقعية أيضًا، إتاحة الوصول إلى القطاع الزراعي. ولكن سيؤدّي هذا الخيار، على الأرجح، إلى استفتاء، ومعارضة قوية من المجتمع الزراعي.


وهناك أيضًا ورقة الذهب. فسويسرا تعالج نحو ثلثي المعروض العالمي المكرر من المعدن النفيس. وقد اقترح البعض في الهيئات التشريعية فرض رسوم تفضيلية، وفق معايير بيئية، أو معايير المصدر، أو حتى استهداف المصافي الأجنبية العاملة في البلاد بضرائب جديدة. لكن يحذّر المصرف الوطني السويسري من تشويه بيانات تجارة الذهب، الماليَّة بطبيعتها، الميزان التجاري الحقيقي. كما لن يخلو أي إجراء في هذا المجال، من التعقيدات الفنية والحساسيات السياسية.


أمَّا الخيارات غير التقليدية، فهي “خيار الفيفا”. فقد اقترح رولاند رينو بوشل، النائب عن حزب الشعب السويسري، الاستعانة بجاني إنفانتينو، رئيس الفيفا المولود في سويسرا والمقرّب من ترامب، كجسر دبلوماسي. وكان إنفانتينو قد حضر حفل تنصيب الرئيس الأمريكي، وظهر معه في نهائي كأس العالم للأندية الشهر الماضي. وهناك من يقترح نقل مقر الفيفا من زيورخ إلى ميامي، كعرض ضمن القوة الناعمة.


كما تعمل شركات سويسرية، مثل “روش” و”بارتنرز غروب”، على تشكيل جماعات ضغط في واشنطن. ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه القنوات الخاصة ستنجح حيث تعثرت المحادثات الحكومية.


مفترق طرق

أشعل هذا المأزق التفاوضي نقاشًا أوسع، وغير معتاد في علانيته، حول حدود استقلال سويسرا الاقتصادي، الذي طالما افتخرت به. فبعد أن كان ابتعادها عن الاتحاد الأوروبي، واحتفاظها بسيادتها في مجالات التنظيم، والزراعة، والهجرة، والسياسة الخارجية، موضع إشادة، بات هذا الاستقلال اليوم مهددًا في عصر تتصاعد فيه النزعات الثنائية الصدامية.


إذ تجد سويسرا نفسها مضطرة لمواجهة هذه العاصفة الجمركية بمفردها، دون اتحاد جمركي، أو اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، ودون سند قوي من التحالفات الاقتصادية. وترى بعض الشخصيات المسؤولة، وجماعات الضغط، أن تقاربًا أكبر مع الاتحاد الأوروبي قد يوفر حماية أفضل في المستقبل.


وفي نهاية المطاف، تقف البلاد أمام خيارات صعبة: تقديم تنازلات حساسة سياسيًا، أو البحث عن تسوية رمزية، أو تحمّل الرسوم والتكيف معها، أو ربما انتظار انتهاء ولاية ترامب. لكن السؤال الأعمق هو: هل تحوّل استقلال سويسرا، الذي اعتزّت به طويلًا، ورسَّخ سيادتها التنظيمية، وحيادها، وانضباط سياساتها، إلى عبء في اقتصاد عالمي تحكمه الحسابات الجيوسياسية؟