كانت أسرة "أبو عادل" كعادتها نهاية كل شهر تنتظر وصول الحوالة المالية التي كان يرسلها والدهم المغترب في المملكة العربية السعودية ، وهي مصدر دخلهم منذ سنوات
أرسل الأب حوالته المعتادة، وهي 1000 ريال سعودي، متوقعًا أن يكون المبلغ المحوّل كافيًا – كما في كل مرة – لتغطية إيجار المنزل وشراء المواد الغذائية، إلى جانب نفقات المنزل ومصاريف أولاده الدراسية.
لكن المفاجأة خالفت التوقعات. فعند ذهاب الزوجة إلى إحدى شركات الصرافة، فوجئت بأن سعر الصرف لم يُحتسب بالسعر المرتفع المتداول في السوق، بل بسعر منخفض يعود إلى ما كان عليه قبل أكثر من عامين.
تقول أم عادل بامتعاض: "كلما تدهورت قيمة الريال اليمني، ترتفع أسعار السلع مباشرة، لكن حينما يتحسن سعر الصرف، لا نشهد أي انخفاض! يذهب الفارق للصرافين، بينما لا نستفيد نحن بشيء... فكيف نعيش؟"
وتكررت هذه الشكوى بين كثير من الأسر اليمنية التي تعتمد على تحويلات أقاربها من الخارج، في ظل غياب رقابة فعلية على التزام شركات الصرافة بسعر السوق.
بين مطرقة عجز الدولة وسندان فساد الصرافين
أما أولئك الذين يعتمدون على رواتبهم من مؤسسات الدولة – مدنية كانت أو عسكرية – فإن أوضاعهم توصف بـ"المأساوية".
العقيد عبدالسلام، كان يعمل مدير سابق لأحد أقسام الشرطة في عدن حتى وقت قريب قبيل تحرير عدن في حرب 2015م، لا يتقاضى سوى راتبه من وزارة الداخلية، الذي لا يُصرف إلا بعد عناء طويل.
يقول: "عشنا سنوات عجافًا بين عجز الدولة وفساد الصرافين. فالدولة تتأخر في صرف الرواتب لأشهر، بينما الصرافون يتلاعبون بأسعار صرف العملات الأجنبية التي يحتاجها التجار لاستيراد السلع".
ويضيف: "التحسن الأخير في سعر الصرف لم ينعكس فعليًا على أسعار السوق حتى الآن ، سوى بانخفاض بسيط، بحجة أن المخزون تم شراؤه بأسعار مرتفعة. ولكن حين ترتفع الأسعار، لا ينتظر التجار نفاد مخزونهم، بل يرفعون الأسعار فورًا".
العسكريون.. فئة "الأفضل حالًا" تعاني أيضاً
حتى من يُوصفون بـ"الأفضل حالًا" – كالجنود في الأحزمة الأمنية والألوية العسكرية التابعة – لم يسلموا من تداعيات تذبذب سعر الصرف.
هؤلاء يتقاضون رواتبهم بالريال السعودي (بين 500 و1000 ريال شهريًا)، لكن شركات الصرافة لم تلتزم بسعر السوق الحقيقي، ما أدى إلى تآكل رواتبهم بفعل فرق الصرف الذي ذهب لخزائن الصرافين، في مفارقة لا تمتّ للواقع بصلة.
الأسباب العميقة لانهيار العملة
لم يكن انهيار الريال اليمني وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات اقتصادية وسياسية، أبرزها: الأزمات المتتالية، والفساد، والخلل في ميزان المدفوعات.
الخبير الاقتصادي د. سامي محمد قاسم، أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة عدن، أوضح أن المشكلة تنقسم إلى شقين:
ارتفاع حجم الواردات مقارنة بحجم الصادرات.
عجز الميزان التجاري الذي بلغ في 2022م نحو 10.4 مليار دولار. ففي ذلك العام، بلغت قيمة صادرات اليمن 2 مليار دولار فقط، مقابل واردات تجاوزت 12.4 مليار دولار. وكان الفارق يُغطى جزئيًا بتحويلات المغتربين (4.5 مليار دولار)، إضافة إلى المنح والمساعدات، خصوصًا من السعودية.
مثال حي على عجز الدولة
مصدر مسؤول في الحكومة اليمنية – فضّل عدم ذكر اسمه – أفاد بأن وزارة المالية تدفع شهريًا نحو 2.7 مليار ريال يمني لصرف مرتبات المتقاعدين عبر الهيئة العامة للتأمينات.
وأشار إلى وجود توجيهات سابقة بمنح سبع علاوات تغطي الفترة من 2014 حتى 2020، لكن ميزانية الدولة لا تسمح بتنفيذ ذلك.
وإذا كان هذا حال المتقاعدين المدنيين، فكيف ستكون الدولة قادرة على تغطية مرتبات قطاعات الأمن والدفاع وغيرها؟
توسع الصرافة.. مؤشر على المضاربات
خلال العقد الماضي، انتشرت شركات ومحلات الصرافة كالنار في الهشيم، ما يُعد مؤشرًا على تفشي المضاربات بالعملة، واحتكار العملات الأجنبية من قبل شبكات تجارية مدعومة سياسياً .
يقول د. سامي: "الارتفاعات السابقة في سعر الصرف كانت وهمية، والمكاسب ذهبت للمضاربين والصرافين، بما في ذلك تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجية التي لم تصل للمواطن".
أسباب التحسن الأخير في سعر الصرف
يوضح د. سامي أن البنك المركزي اليمني أعاد السيطرة على النظام المصرفي بعد نقل المراكز المالية والمعلوماتية إلى عدن، إلى جانب نقل جمعية البنوك ومؤسسات ضمان الودائع.
كما تم تشكيل لجنة عليا لتنظيم تمويل الاستيراد، برئاسة البنك المركزي، الأمر الذي عزز التنسيق بين الحكومة والبنك، وسمح بفرض رقابة على شركات الصرافة، ومحاسبة المتلاعبين.
وأشار إلى أن الأيام المقبلة قد تشهد وصول منحة جديدة للبنك المركزي من جهات مانحة، في ظل وجود تنسيق مع البنك الدولي، والولايات المتحدة، والسعودية.
مساعي دولة رئيس الوزراء
من جانب سعي الحكومة الحالية على تحسين مستوى معيشة المواطن والحد من التلاعب بأسعار السلع والخدمات ، بعد تحسن سعر صرف الريال اليمني أمام الدولار ، فإن دولة رئيس الوزراء الاستاذ سالم صالح بن بريك ، يؤكد سعيهم الحثيث والجاد في مواصلة العمل وتحقيق أقصى استفادة من خلال الحلول الممكنة ، والتغلب على الصعوبات التي تواجههم .
ويؤكد معالي دولة رئيس مجلس الوزراء ، هذه الجهود في الخبر الذي نشر على صفحته الرسمية على شبكة الانترنت ، عن ترؤسه الاجتماع الدوري لمجلس الوزراء ، الذي عقد في العاصمة المؤقتة عدن ، يوم الاربعاء 3,اغسطس 2025م ، والذي قال فيه :
جددتُ التأكيد، أثناء ترؤسي اليوم في عدن الاجتماع الدوري لمجلس الوزراء، أن تحسّن سعر صرف العملة الوطنية ليس مجرد رقم اقتصادي، بل التزام حكومي بضرورة انعكاسه المباشر على أسعار السلع والخدمات.
ووجه بالاجتماع الوزارات والسلطات المحلية لاتخاذ إجراءات عاجلة لضمان أثر ملموس لهذا التحسن على معيشة المواطنين، وحمّلتها كامل المسؤولية في ضبط الأسواق، وتخفيض الأسعار، ومحاسبة المتلاعبين.
مؤكدا أن المواطن لن يكون ضحية لاي جشع أو تهاون، والإجراءات الحكومية ستكون صارمة ومباشرة.
مشيراً إلى أن مواجهة الحرب الاقتصادية التي تقودها مليشيا الحوثي على اقتصاد شعبنا ، لا تقل أهمية عن مواجهة انقلابها عسكرياً ، وسيتحقق ذلك بإصلاحات مسؤولة ومؤسسات قوية وشراكات فاعلة، وان معركة الاقتصاد هي معركة استعادة الدولة حسب تصريحه .
وأشاد بالدعم الأخوي الصادق من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، للاقتصاد اليمني ، داعيا إلى تعزيز دعم الاشقاء في هذه المرحلة لتعظيم المكاسب وتخفيف المعاناة..
ومن ضمن الجهود الذي يبذلها بن بريلك، هو اصدار عدة قرارات لرفع مستوى التصدير والتخفيف من الاستيراد ، من ضمن هذه القرارات ، التعامل الحصري بالريال اليمني واعتباره قرار سيادي لحماية اقتصادنا ، وإقرار مشروع استراتيجي لتكرير النفط .. حيث قال : أصدرنا توجيهات صارمة بتطبيق القانون ومنع استخدام العملات الأجنبية في بيع السلع والمعاملات التجارية والعقارية.
كما أقررنا مشروع استراتيجي لتكرير النفط بمحافظة حضرموت وتوطين صناعة الأدوية، ووجّهنا بتسهيلات استثمارية واسعة.. خطوة نحو أمن اقتصادي وصحي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
حلول لتحقيق الاستقرار المالي
للوصول إلى استقرار مالي وانسياب وضع المواطن الذي لايزال متأزم لهذه اللحظة ، يرى بعض الخبراء ان امام الحكومة اليمنية الكثير والكثير اتخاذ حزمة من القرارات و الإجراءات على مستويين:
أولاً: على الصعيد الداخلي
اتخاذ وتنفيذ المزيد من الإجراءات لمجابهة تركة ثقيلة من الاختلالات ، لتقويض لوبي الاقتصادي بحزم وشدة .
إعداد موازنة سنوية للدولة (لم تُعد منذ 2015م).
تفعيل تحصيل الإيرادات من كل المحافظات وتوريدها للبنك المركزي.
مكافحة الفساد في الجهات الإيرادية (الجمارك، الضرائب...).
تشجيع الاستثمار والشراكة مع القطاع الخاص.
إنشاء أقسام بنكية مختصة ببيع وشراء العملات الأجنبية وتوريدها للمركزي، عوضًا عن شركات الصرافة.
ثانيًا: على الصعيد الخارجي
إعداد خطة اقتصادية شاملة لإعادة التعافي، بإشراف ديوان رئاسة الوزراء.
تنسيق وزارة الخارجية مع الجهات الدولية لحشد الدعم وإعادة بناء البنية التحتية.
استعادة الأموال المهربة (تقدَّر بـ130 مليار دولار)، وتشجيع المغتربين على التحويل عبر القنوات الرسمية، مع تقديم حوافز وضمانات.
في الختام : يبقى التحسن المفاجئ في سعر صرف الريال اليمني خطوة إيجابية، لكنه لا يكفي ما لم يُرافقه ضبط شامل للسوق، وقرارات جريئة تحدّ من فساد المؤسسات، وتُعيد الاعتبار للعملة المحلية وقوتها الشرائية، بما يُخفف من معاناة المواطن اليمني اليومية ، وتظل إجراءات وقرارات رئيس مجلس الوزراء تنتظر دخولها حيز التنفيذ لتلبي طموح الشعب بحياة كريمة .