في مشهد مؤلم يُلخّص حال المؤسسات الحكومية في محافظة عدن، تقف مباني مؤسسة البريد، التي كانت يومًا ما إحدى أعمدة السيادة والخدمات في المدينة، خاوية من كل شيء إلا من بعض الموظفين والمتقاعدين الذين لا يزالون يترددون عليها على أمل استلام جزء من معاشاتهم، بعدما أُفرغت هذه المؤسسة العريقة من محتواها، وانتُزعت مهامها الحيوية لصالح محلات صرافة خاصة تتحكم اليوم بواحدة من أهم الخدمات التي كان البريد يضطلع بها لعقود.
مكتب بريد عدن، الذي تأسس قبل عقود طويلة، كان في طليعة مؤسسات البريد في الجزيرة العربية، يُسيّر الطرود، يوزع الرسائل، يُدير حسابات التوفير، ويقوم بدور الوسيط المالي بين الحكومة والمواطن، ويمتلك شبكة واسعة من الفروع في مختلف المديريات. واليوم، لا يكاد المرء يجد في مبناه الرئيسي سوى بضع كراسٍ مهترئة، وجدران تتآكلها الرطوبة، ومكاتب غابت عنها الحركة والخدمة.
كيف بدأ الانحدار؟
بحسب موظفين سابقين تحدثوا لـ"عدن الغد"، فإن بداية الانهيار بدأت بعد الحرب في 2015، عندما توقف البريد عن ممارسة مهامه الحيوية، خصوصًا بعد أن فقد قدرته على تأمين حركة الأموال والبريد بين المحافظات نتيجة الوضع الأمني والاقتصادي المتدهور. ومع تعطل عمل القطاع الحكومي، تراجعت قدرة البريد على أداء وظائفه، فتدخّلت شركات الصرافة لسد الفراغ، لكنها لم تُسدّ الحاجة بل استولت على الوظيفة.
"كنا نُسلّم آلاف المتقاعدين والموظفين رواتبهم شهريًا من خلال نظام منضبط ومحكوم بقوانين وإشراف الدولة، واليوم تُدفع الأموال من كاونتر صرافة لا يخضع لأي رقابة حقيقية"، يقول أحد العاملين في البريد الذي طلب عدم ذكر اسمه.
من استولى على الدور؟
منذ منتصف 2016، بدأت الحكومة تُحيل مسؤولية صرف الرواتب إلى محلات الصرافة الخاصة، بدلاً من البريد، مبررة ذلك بالوضع الفني والأمني. هذا القرار الذي اتُخذ دون أي خطة إنقاذ للبريد أو تمكينه، فتح الباب أمام شركات الصرافة الكبرى لتوسيع نفوذها في هذا القطاع، وبات المواطنون مضطرين للتوجه إليها لاستلام رواتبهم، حتى المتقاعدين.
وأصبحت شركات الصرافة تمارس دور البريد، ولكن دون البنية القانونية أو النظام المؤسسي، وبتكاليف إضافية يتحملها المواطن من رسوم وخصميات وتأخيرات متكررة، في ظل غياب كامل للمحاسبة أو التنظيم.
أين الحكومة؟ وأين وزارة الاتصالات؟
تُعد مؤسسة البريد جزءًا من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، والتي بدورها تعاني من ازدواج إداري وسياسي منذ سنوات، حيث تتوزع سلطاتها بين صنعاء وعدن. وفي عدن، تغيب أي سياسة واضحة لإعادة تفعيل البريد، رغم النداءات المتكررة من الموظفين والنقابات والناشطين، ما يعكس تراجع الإرادة السياسية لاستعادة مؤسسات الدولة.
يقول موظف متقاعد من البريد: "الدولة تخلّت عنا. كنا نُدير مليارات الريالات شهريًا، واليوم نعتمد على رحمة صراف يدفع لنا الراتب متى يشاء، أو لا يدفع".
من المسؤول عن حماية مؤسسة وطنية كهذه؟
تُعد مؤسسة البريد من أقدم المؤسسات السيادية في اليمن، وغيابها لا يعني فقط خسارة خدمات بل يعكس انهيارًا أكبر في مؤسسات الدولة التي كان يفترض أن تستعيد دورها بعد الحرب. والحقيقة المؤلمة أن لا أحد من الجهات الحكومية في عدن أو صنعاء قدّم حتى الآن خطة حقيقية لإنقاذ هذه المؤسسة.
الأسئلة التي يطرحها المواطن اليوم: لماذا لا تعيد الحكومة الرواتب عبر البريد؟ لماذا لا يُدعم البريد بأنظمة تقنية حديثة وشبكة تحويلات مالية بدلاً من منحه لشركات خاصة؟ هل بات دور الدولة هو تسليم المؤسسات للقطاع الخاص تحت مسمى التسهيل؟
دعوات لإعادة الاعتبار
يطالب مراقبون ومواطنون وناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي بإعادة تفعيل مؤسسة البريد ومنحها صلاحياتها السابقة، كجزء من استعادة مؤسسات الدولة في عدن. ويؤكدون أن البريد يمكنه القيام بدور أكبر في إدارة الرواتب، وخدمة المواطنين، وتنظيم التحويلات، بل وخلق فرص عمل للشباب، إذا توفرت الإرادة السياسية والدعم الفني.
يقول ناشطون: "الدول تُبنى بمؤسسات قوية، وليس بمحلات صرافة تُديرها شبكة غير رسمية، ولا يمكن لمدينة مثل عدن أن تستعيد هيبتها ما لم تُستعاد مؤسساتها".
وفي انتظار أن يصحو أحد من المسؤولين، يظل المواطن يذهب شهريًا إلى صراف خاص، يحمل بطاقته، ويقف في طابور طويل، ليس من أجل خدمة "مالية" فقط، بل لأن البريد قد مات، ولم يتبقَ منه إلا مبنى وشبح موظف ينتظر راتبًا من شركة صرافة.