تسود مخاوف واسعة في الأوساط التجارية والاستهلاكية في اليمن من أزمة حادة تضرب الأسواق، تتمثل في اختفاء عشرات السلع بفعل الحظر التي أقرته سلطات الحوثيين على الكثير من المنتجات المستوردة مبررة ذلك بتوطينها، بينما يرى تجار ومحللون أن الظروف الحالية قد لا تكون مواتية لتطبيق مثل هذا القرار، إذ يشهد اليمن تدهوراً بالأساس في الأمن الغذائي، بفعل اضطراب الحركة التجارية بفعل التوترات الجيوسياسية في المنطقة وشح المساعدات، فضلاً عن الجفاف الذي يعصف بزراعة البلاد وإنتاجها الحيواني وتردي اقتصادها.
وأقر الحوثيون مطلع يونيو/ حزيران الماضي، حظراً شاملاً ونهائياً على عشرات السلع والبضائع، بالتزامن مع قرار آخر يقضي بتوطين نحو 30 سلعة وإنتاجها وفق حصص محددة مع رفع الرسوم الجمركية على استيرادها.
وقوبلت تحركات الحوثيين بالاعتراض من التجار، إذ أكدت الغرفة التجارية والصناعية المركزية في أمانة العاصمة صنعاء، رفضها لقرار التوطين الصادر عن وزارتي الصناعة والتجارة، والمالية والاستثمار الخاضعتين لسلطات الحوثيين، واعتبرته مخالفاً للدستور والقانون اليمني. ودعت في اجتماع موسع عقدته أخيراً مع قطاع واسع من التجار إلى عدم التعامل مع الآلية الجديدة في المنافذ الجمركية، وذلك رفضاً للقرارات غير المدروسة ورفع الرسوم الجمركية، التي سوف تسبب أزمة سلعية وشللاً في الحركة التجارية، وزيادة الأضرار على القوة الشرائية للمواطن، إضافة إلى، وهو الأهم، ارتفاع جنوني في الأسعار، وتحميل المواطنين أعباء معيشية تفوق الاحتمال.
ووصفت الغرفة، في بيان غير مسبوق، اطلعت عليه "العربي الجديد"، هذه التوجهات بالسياسات العشوائية التي تخنق الاقتصاد الوطني، فالمواطن هو المتضرر الأول والأخير منها، مشدّدةً على أن سيادة النظام والقانون هي الضامن الوحيد لتحقيق العدالة.
في السياق، اعتبر الخبير في القانون التجاري علي الدبعي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن حظر الاستيراد الذي أقره الحوثيون وفرض رسوم جمركية على الكثير من السلع الواردة وتحديد حصص للإنتاج مخالف للقوانين المنظمة للعمل التجاري، إضافة إلى عدم استناد مثل هذه القرارات إلى صيغ قانونية محددة في الدستور اليمني، وعدم التشاور مع القطاع الخاص بشأنها.
كما يرى مختصون في القانون التجاري أن هذه السياسات تُفقد السوق مبدأ المنافسة والكفاءة في الإنتاج، وتفتح المجال أمام الاحتكار والتلاعب، إذ أكدت غرفة أمانة العاصمة صنعاء رفضها بشكل قاطع منع الحصص أو تقييدها، لما في ذلك من مخالفة صريحة "لشرع الله"، واعتبارها من صور الاحتكار المحرم شرعاً وقانوناً.
ويشمل حظر الاستيراد سلع الألبان الجاهزة المعلبة السائلة، والعصائر، والمياه المعدنية الصحية، والمناديل الورقية، والإسفنج الجاهز، والأعمدة الحديدية والمجلفنة (فولاذية مغطاة بالزنك)، والأنابيب والمواسير الحديدية المجوفة، والمنتجات المسطحة من حديد الهناجر. كما تضمن القرار عدداً من السلع التي يجري تقييد كميات استيرادها إلى اليمن، وتعديل التعرفة الجمركية والاستيفاء الضريبي بشأنها وهي: لب المانغو الخام، معجون وصلصة الطماطم، والعصائر المعلبة الجاهزة، والمياه الغازية، والسكر المكرر الجاهز، وحفاضات الأطفال، والبقوليات المعلبة الجاهزة، والحلاوة الطحينية، والكراتين الجاهزة، والأنابيب البلاستيكية لشبكات المياه، والشنط والحقائب النسائية، وأكياس التعبئة والتغليف، والقوارير والأغطية البلاستيكية، وبلاط السيراميك.
ودعت الوزارتان مستوردي هذه السلع إلى مراجعة قطاع التجارة الخارجية بوزارة الاقتصاد ومصلحة الجمارك لمعرفة التفاصيل والالتزام بموعد سريان الحظر والتقييد، مشيرتين إلى وجود برنامج لتصنيع الكميات المطلوبة من المستوردين عبر المصانع المحلية وبالعلامات التجارية المعتمدة للمستوردين بما يحافظ على مصالحهم.
وجاء القرار تزامناً مع اتخاذ قرارات توطين قوائم من السلع المحلية لدعم المنتجات المحلية، مثل المانغو في محافظة الحديدة، وأسطوانات الغاز المنزلي، وحظر استيراد الروتي (نوع من الخبز) والبرغر والعديد من المخبوزات والمعجنات الجاهزة. كما جرى توطين منتجات أخرى مثل الإسمنت، والدقيق، وخام الكلنكر الخاص بصناعة الإسمنت. وترى حكومة الحوثيين أن عمليات التوطين ستسهم في تشجيع الصناعات المحلية وخفض فاتورة الاستيراد، وتشجيع الاستثمار المحلي، وخلق فرص العمل، وتؤكد أنه سيجري توطين صناعات أخرى في ظل استراتيجية تعزيز القطاع الصناعي رافعة اقتصادية.
في السياق، يقول الخبير في التصنيع الغذائي خالد القدسي، لـ"العربي الجديد"، إن كثيراً من السلع المشمولة بالقرار يعتبر حظر استيرادها ضرورة ملحة بالنظر إلى الإمكانيات التي يمتلكها اليمن وقدرة الاقتصاد المحلي على تغطيتها مثل الألبان والمشروبات والمياه، إضافة إلى تطور قدرات المنشآت الصغيرة والأصغر وكذا الإنتاج الأسري الذي أصبح قادراً على منافسة المستورد، إذ إن هناك تقارباً كبيراً في مستوى الجودة التي بالإمكان تحسينها بالتزامن مع البرامج الحكومية لتشجيعها وتحفيزها ومساندتها.
لكن تسود مخاوف في المقابل من أن حظر الاستيراد لهذا الكم من السلع سيكون له تأثير عكسي، إذا لم يتوفر البديل المحلي والذي قد لا يكون جاهزاً في الوقت الراهن. وتشير البيانات المحلية إلى أن القطاعات الإنتاجية الأساسية في اليمن (الزراعة والصيد، والصناعات التحويلية) تقوم بتوفير حوالي 49% فقط من احتياجات السكان من السلع والمنتجات المختلفة، وهو ما يشير وفق محللين إلى أن هناك إشكالية كبيرة يعانيها الاقتصاد اليمني في ما يخص موضوع الاكتفاء الذاتي، وهو مؤشر على عدم قدرة الاقتصاد المحلي على تغطية السلع التي سيتم حظرها وتلبية احتياجات السوق المحلي منها.
وتتزامن مخاوف حدوث نقص في الكثير من السلع في الأسواق وارتفاع أسعارها، في وقت تتصاعد فيه التحذيرات الدولية من تفاقم انعدام الأمن الغذائي في البلد.
وقبل أيام، حذر تقرير أممي حديث، صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو)، من تدهور واسع في الأوضاع الزراعية في اليمن، نتيجة استمرار الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، مما يُنذر بتداعيات خطيرة على الأمن الغذائي وسبل العيش الزراعية في البلاد. وأشار التقرير إلى استمرار ارتفاع درجات الحرارة فوق المعدل خلال مايو/أيار الماضي، حيث تجاوزت 42 درجة مئوية في المناطق الشرقية والساحلية، وأدت هذه الظروف إلى زيادة معدلات التبخر، وانخفاض رطوبة التربة، وإجهاد المحاصيل، حتى في مناطق المرتفعات التي تتميز عادةً بدرجات حرارة أكثر برودة.
ولفتت "فاو" إلى أن مؤشرات الغطاء النباتي أظهرت تدهوراً ملحوظاً في معظم المناطق الزراعية، حيث "أدى نقص الأمطار وارتفاع الحرارة إلى ظهور علامات مبكرة لإجهاد نباتي واسع النطاق"، وهو ما قد ينعكس سلباً على إنتاجية المحاصيل خلال الموسم الزراعي الرئيسي. وأكدت المنظمة الأممية أن الموارد المائية تتعرض لضغوط إضافية، بسبب ضعف تدفق المياه وارتفاع الحاجة إلى الري، مما يفاقم التحديات التي تواجه المجتمعات الزراعية.
وتزيد التغيرات المناخية هذه من قتامة المشهد الغذائي والمعيشي في اليمن، ولا سيما بعد الضربات الأميركية والإسرائيلية والتوترات في البحر الأحمر. وسجّلت واردات الغذاء إلى الموانئ الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على البحر الأحمر، غربي اليمن، تراجعاً بنحو 20% على أساس سنوي في أول خمسة أشهر من العام الجاري، لتصل إلى 1.79 مليون طن مقابل 2.23 مليون طن في الفترة نفسها من العام الماضي 2024. ويسيطر الحوثيون على مؤسسة موانئ البحر الأحمر التي تضم ثلاثة موانئ رئيسية هي ميناء الحديدة، وميناء رأس عيسى، وميناء الصليف.
وبحسب أحدث إصدار من تقرير المرصد الاقتصادي لليمن الصادر عن البنك الدولي في يونيو الماضي، فإن الاقتصاد اليمني يواصل مواجهة ضغوط كبيرة. فاستمرار الصراع والتجزؤ المؤسسي، إلى جانب تراجع الدعم الخارجي، يساهم في تفاقم الأزمة التي طال أمدها في البلاد. وخلص التقرير الصادر بعنوان "الهشاشة المستمرة وسط تزايد المخاطر" إلى أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي هوى بنسبة 58% منذ عام 2015. في الوقت نفسه، تجاوز التضخم في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً نسبة 30% في 2024.