في صنعاء، حيث يُفترض أن القبضة الحديدية للحوثيين تجعل من كل نفس مخالف جريمة، خرج الآلاف في وداع صامت للشيخ القبلي البارز ناجي جمعان، فأعادوا كتابة المعادلة السياسية والاجتماعية في مناطق سيطرة الجماعة، ووجهوا رسالة بالغة الوضوح: هذا الشعب لم يُهزم، وهذه القبائل لم تُروّض، والخوف لم يعد سيد اللحظة.
الحدث لم يكن مجرد مراسم تشييع تقليدية، بل تحوّل إلى لحظة سياسية نادرة، كشفت ما ظلّ مكتوماً في صدور اليمنيين منذ سنوات. فالموكب الجنائزي، الذي بدا أقرب إلى تظاهرة وطنية عارمة، خرج عن طابعه الجنائزي وأعاد للشارع اليمني لغة الرفض، دون أن يرفع شعارًا أو يُطلق هتافًا. كان الحضور بحد ذاته موقفًا سياسيًا، لا لبس فيه، يقول: لا شرعية لكم، لا قبول لسلطتكم، لا اعتراف بكم.
الشيخ ناجي جمعان، أحد أبرز رموز انتفاضة ديسمبر في وجه الحوثيين، عاد في موته ليجمع القبائل مجددًا على موقف، في وقتٍ اعتقدت الجماعة أنها نجحت في تفكيك البنية الاجتماعية، وإخماد صوت المقاومة. لكن الجنازة كشفت أن الخضوع لم يكن سوى قشرة خارجية، وأن القهر لا يصنع ولاءً، وأن الذاكرة الشعبية ما زالت حية، وتحتفظ برموزها وتاريخها ومواقفها.
كان التشييع صدمة صامتة للحوثيين، ونكسة سياسية لحالة الترويض التي حاولوا فرضها على القبائل، واستفتاء شعبي على مشروعهم القائم على السلالة والإرهاب والنهب. فلم يكن من السهل على جماعة اعتادت تطويع كل المناسبات لصالحها، أن تمرّ جنازة بهذا الحجم دون أن يكون لها صوت أو حضور أو قدرة على توجيه المشهد.
وفي هذا الصمت الجماعي، كان كل فرد من المشيّعين يقول بطريقته: نحن لا نعترف بكم، نحن ننتظر لحظة الخلاص. ولعل ما يجعل من هذا الحدث بالغ الدلالة، هو أنه تم في ظل مراقبة أمنية مكثفة، ما يعني أن الناس باتوا يتحدون الخوف، ويستخدمون المناسبات الاجتماعية الكبرى للتعبير عن رفضهم، دون أن يحتاجوا إلى صدام مباشر.
ما حدث في صنعاء، يوم تشييع الشيخ جمعان، هو مشهد يؤسس لتحول في الوعي الشعبي، يعكس احتقاناً عارماً داخل المجتمع، ويؤكد أن سلطة الحوثيين تعيش عزلة متفاقمة، وأن مشروعهم يترنّح تحت وطأة الغضب المكبوت في القرى والمجالس والبيوت.
إنها رسالة من اليمنيين للعالم، مفادها أن هذا الكيان الكهنوتي لا يحكم بإرادة الناس، وأن الزمن الذي يُصادر فيه الوطن باسم السلالة يلفظ أنفاسه الأخيرة. فحين تتحول جنازة إلى إعلان سياسي، فهذا يعني أن التغيير يقترب، وأن الذاكرة الجمعية لا تزال أقوى من كل أدوات القمع، وأن الوطن لم يمت بعد.