ومرت الأيام ...وعاد صوتُها، يحملُ إليهِ في كل مرةٍ بصمةً جديدةً ، تُضافُ إلى لوحةٍ في مخيلتهِ لحسناءٍ لم ترها عيناهُ طوال تعارفِهما الذي امتدّ لقرابةِ عامين .. وراح يُجسّد صورتَها ، مطرزةً بكل بديعٍ اختصّهُ الخالقُ لبني الإنسان .. أما هي فكانت تدفعُ بمزيدٍ من الزيت إلى قناديلهِ المتّقدةِ ، ليسبح في عوالمَ من النور متسعةً بلا حدود ، لكن هاجساً يبعثُ على الحيرةِ ، ويثيرُ في نفسها شيئاً من القلق ، وسؤالاً لا ينفك باحثاً عن الإجابة .. كيف يمكنُ لهذا الحشدِ من المشاعر الجياشةِ أن يُجَيّرَ لقلبها الغائبِ الحاضر ! إن ما يتحدث عنه طيفٌ من نسج الخيال ، وتمثالٌ أكمل نحتَهُ بمهارةٍ فائقةٍ ، ثم انثنى يتأملهُ بإعجاب ، فهو إذاً مغرمٌ بهذا الوهم الذي أعارتهُ صوتَها ليَعيشَهُ كواقعٍ حيّ .
وهكذا اتجهت أشرعتهُ بلا هُدىً ، في بحرٍ لا يعرفُ مداه ، بيد أنهُ لا يطمحُ إلى غايةٍ بعينِها ، ولا يرمي إلى هدفٍ مُحدد ، ولهذا يجدُ السلوى في استمرار هذا الحلُم الجميل ، مُنزّهاً عن الدّنايا ، ومتشحاً بكل معنىً للسموّ ، وهو بذلك إنما يستجيبُ لنداء خفيّ ينبعثُ من أعماقهِ ، ويترددُ صداهُ في أرجاءِ نفسه .. وتظلُ هي ذلك الوسيط الذي يربط بينهُ وبينَ تمثالهِ العجيب .
حتى إذا جمعتْهُما صدفةٌ ذات يومٍ ، ووقعت عيناها عليه ، دنَتْ منه ُ، وعمَدَت إلى مخاطبتهِ قائلةً في دهشةٍ : " ألم تعرفني " ؟ ! ، أجابَ في وداعةٍ وهدوء : " عفواً .. سيدتي .. لا أتذكرُ أنني رأيتُكِ من قبل " .
وذهبَ ينتظرُ صوتَها كعادتهِ .. لكنهُ على ما يبدو توارى .. بل اختفى هذه المرةِ إلى الأبد .
بقلم / قاسم محمد برمان